«أين بيلوسي»؟ سؤال كان الآلاف يحاولون الإجابة عنه أمس، لمعرفة ما إذا كانت رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، ستُقدم فعلاً على زيارة تايوان. دخَل هؤلاء مواقع تتبّع الرحلات لمراقبة مسار رحلتها، فيما كانت السفن الأميركية تتحرّك والطائرات الصينية تحلّق بالقرب من الجزيرة، في مؤشّر واضح إلى وصول حدّة التوترات بين الطرفين إلى مستويات غير مسبوقة. وأخيراً، وصلت بيلوسي إلى تايوان.
ما قبل الزيارة
حصلت هذه الزيارة إذاً، وهي الأعلى مستوى لمسؤول أميركي منذ 25 عاماً، ليضربَ عرض الحائط بجميع التحذيرات القاسية التي صدرت عن بكين، إنْ من ناحية عدم وقوف الجيش «مكتوف الأيدي»، أو «اللعب بالنار»، وصولاً إلى تحذير الرئيس الصيني، شي جين بينغ، نظيره الأميركي، جو بايدن، من «عواقب غير محدّدة» في حال حصول الزيارة، خلال اتّصال هاتفي الأسبوع الماضي.
ولم تقتصر المسألة على التحذيرات فحسب، بل سرعان ما أفادت تايوان بأن الموقع الإلكتروني لمكتبها الرئاسي تعرّض لهجوم إلكتروني من جهات خارجية. وبحسب صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، فإن هذه الهجمات استمرّت خلال النهار؛ إذ تعطّلت، ولأكثر من مرّة، عدّة مواقع حكومية في الجزيرة، بما فيها تلك التابعة للمكتب الرئاسي لنحو نصف ساعة. بالإضافة إلى ذلك، نقلت وسائل الإعلام عن الشرطة في تايوان قولها إنها كثّفت دورياتها في «تاويوان الدولي»، عقب وصول تهديد بوجود قنبلة ستستهدف بيلوسي لدى وصولها. وبحسب «مكتب شرطة الطيران» في الجزيرة، فإن الرسالة زعمت أنه سيتمّ وضع ثلاث عبوات ناسفة داخل المطار لمنع بيلوسي من زيارة تايوان. وأكد «مطار تاويوان الدولي» تلقّيه التهديد، من دون ذكر مزيد من التفاصيل، مشيراً إلى أنّ «التحقيق مستمرّ».
أمّا عسكرياً، فتمركزت أربع سفن حربية أميركية، بينها حاملة طائرات، في المياه شرق الجزيرة، في عمليات انتشار وصفتها واشنطن بالـ«اعتيادية»، مؤكّدةً في الوقت عينه أنّها مستعدة للتعامل مع أيّ سيناريو محتمل. وأكد مسؤول في البحرية الأميركية لوكالة «رويترز» أن حاملة الطائرات «رونالد ريغان» عبرت بحر الصين الجنوبي، نحو بحر الفيليبين شرق تايوان والفيليبين وجنوب اليابان. في المقابل، كانت السفن والطائرات الحربية الصينية تضغط على خطّ الوسط منذ الصباح، في خطوة اعتبرها المسؤول «غير معتادة واستفزازية للغاية». وأضاف هذا الأخير للوكالة أن المقاتلات الصينية أجرت مراراً مناورات تكتيكية «لامست» خلالها لفترة وجيزة خطّ الوسط، وحلّقت عائدة إلى الجانب الآخر من المضيق، ما جعل الطائرات التايوانية في حالة تأهّب.

ماذا بعد؟
حالياً تتركزّ الأنظار على بكين لمراقبة رد الفعل المقبل. ويرى محللون أن الرئيس الصيني قد يلجأ إلى بعض التحرّكات العسكرية تعبيراً عن معارضة بكين لهذه الزيارة، إنّما مع تجنّب الانجرار إلى مواجهة متقلّبة، من شأنها أن تزعزع الأسواق وتضرّ بالاقتصاد. ومن بين هؤلاء، يلفت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جينان في جنوب الصين، تشين دينجدينج، في حديث إلى صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، إلى أنه «سيكون هناك رد فعل قوي للغاية بالتأكيد، لكنه لن يخرج عن نطاق السيطرة». ومن جهته، يعتبر رئيس «مركز أبحاث الصين المتقدمة» غير الربحي، ديفيد جيتر، في حديث إلى الصحيفة ذاتها، أن التحذير الذي وجّهه شي في اتّصاله مع بايدن هو «خطاب تحذير متوسّط المستوى، لا يؤشّر إلى الرغبة في الإقدام على مخاطر تودي إلى الحرب»، ويتابع: «هذا لا يشير إلى أنهم على وشك القيام بشيء مجنون كثيراً، على غرار تهديد سلامة بيلوسي بشكل مباشر»، وذلك لعدّة أسباب، منها تركيز الرئيس الصيني على التحديات الاقتصادية والسياسية، إذ قد يؤدي الانخراط في أزمة حول تايوان إلى الإضرار به، في الوقت الذي يسعى فيه إلى حشد الدعم القومي، قبيْل مؤتمر «الحزب الشيوعي الصيني» في وقت لاحق من هذا العام.
قد تلجأ بكين إلى بعض التحرّكات العسكرية تعبيراً عن معارضتها لهذه الزيارة


مع ذلك، ومباشرةً عقب الزيارة، أعلن العقيد الأول في القوات البرية، والمتحدث الإعلامي باسم قيادة الجبهة الشرقية لجيش التحرير الشعبي الصيني، شي يي، أنه «ابتداءً من مساء 2 آب، ستنفّذ الجبهة الشرقية لجيش التحرير الشعبي الصيني سلسلة من العمليات العسكرية المشتركة في محيط جزيرة تايوان. كما ستُجري مناورات بحرية وجوية مشتركة في كلّ من شمال جزيرة تايوان وجنوب غربها وجنوب شرقها، وستقوم بتدريبات بعيدة المدى بالذخيرة الحيّة في مضيق تايوان، بالإضافة إلى تنظيم إطلاق تجريبي للصواريخ التقليدية في المناطق البحرية شرق جزيرة تايوان»، مشيراً إلى أن هذه العمليات هي إجراءات للردع الشديد من قِبل الصين، في مقابل التحرّكات السلبية المتزايدة التي اتخذتها الولايات المتحدة، أخيراً، في ما يخصّ قضية تايوان، وهي أيضاً بمثابة «تحذير قوي موجّه للقوى الانفصالية الساعية لاستقلال تايوان».
في المقابل، يرى مراقبون أن انكفاء الولايات المتّحدة عن القيام بهذه الزيارة كان سيعني رضوخ واشنطن للتهديدات الصينية، وترسيخاً لفكرة أن الصين باتت قادرة على فرض سيطرتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى تلك الدرجة التي تدفع فيها واشنطن إلى مثل هذا التراجع، علماً أن الولايات المتّحدة أعلنت مراراً أن كامل تركيزها في الوقت الحالي بات منصبّاً على هذه المنطقة.

تبعات الحرب المُحتملة
إلى جانب التبعات الاقتصادية والبشرية والعسكرية التي قد تترتّب على أي حرب محتملة بين الصين وتايوان، يُسلَّط الضوء، في خضمّ أزمة الغذاء العالمية، على أزمة إضافية، قد تطاول صناعة أشباه الموصلات في الجزيرة، إذ تُصنِّع هذه الأخيرة معظم الرقائق الأكثر تطوّراً في العالم، والتي تُستخدم في مليارات المنتجات الإلكترونية، بما في ذلك الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والسيارات.