مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، وما ترتّب عليها من أزمة طاقة عالمية لم تقتصر على غلاء أسعار النفط والغاز، بل امتدّت إلى أصل توافر الموادّ، وخصوصاً بالنسبة إلى الدول الأوروبية أولاً، والولايات المتحدة، بدرجة أقلّ، تنقُّب هذه الدول المياه واليابسة، بحثاً عن مصادر بديلة للغاز والنفط، تعوّض عبرها ما أمكن من الغاز الروسي «الممنوع». وضمن عمليات «التنقيب» تلك، وجد الأوروبيون أنفسهم أمام الحوض الشرقي للبحر المتوسط، حيث يُكتشف مزيد من حقول النفط والغاز الطبيعيين (هيدروكربونات)، أمام السواحل الفلسطينية واللبنانية والسورية، وصولاً إلى تركيا، بينما تشير بعض التقديرات إلى أن في هذا البحر 500 مليار متر مكعّب من الغاز. ومن المعلوم أن لبنان وسوريا لم يجريا حتى اليوم أيّ أعمال حفر واستخراج، بل اقتصرت نشاطاتهما على بعض عمليات الاستكشاف والتنقيب غير المكتملة، بينما وصلت كلّ من تركيا وإسرائيل، منذ سنوات، إلى مراحل متقدّمة من التنقيب والحفر والاستخراج، واليوم تدفعان بمزيد من الجهود في السياق نفسه، حيث تتوقّع الحكومة الإسرائيلية بدء الاستخراج من حقل «كاريش» النفطي، بعدما بدأت قبلاً بالاستخراج من عدّة حقول في مياه المتوسّط. من جهتها، أعلنت تركيا، قبل أيام قليلة، إطلاق مهمّة جديدة للبحث عن النفط والغاز الطبيعي قبالة سواحل الشطر الشمالي لجزيرة قبرص، أو ما يعرف بـ«قبرص التركية».
سوريا ولبنان خارج الخريطة
منذ منتصف عام 2012، بدأت معدّلات إنتاج الغاز تنخفض تدريجياً. وتراجع حجم إنتاج الغاز السوري، من حوالي 27.5 مليون متر مكعّب في عام 2012، إلى حوالي 17.1 في عام 2013، واستمرّ تراجعه ليُسجِّل في عام 2016 أدنى مستوى له، حيث بلغ حوالي 6.5 ملايين متر مكعّب يومياً، وهو دون ما كانت تحتاج إليه يومياً محطّات توليد الطاقة الكهربائية، والمُقدَّر آنذاك بحوالي 12 مليون متر مكعّب. وتعاني سوريا، اليوم، صعوبات بالغة في تأمين الغاز والمحروقات لحاجاتها المحلّية، والتي تساعدها في سدّ جزء منها الإمدادات الإيرانية. أما بالنسبة إلى الحقول المُفترضة في المياه الإقليمية السورية، فهي على أهمّيتها، لن يكون استثمارها ممكناً في المدى القريب؛ إذ إن تكلفة حفر بئر واحدة تصل إلى أكثر من 100 مليون دولار، والبدء بالاستخراج منها يحتاج إلى حوالي 4 سنوات. وبالإضافة إلى ذلك، ثمّة عقدٌ موقّع بين الدولة السورية وشركة روسية لاستكشاف النفط والغاز في بعض البلوكات البحرية، لكن إلى اليوم، لم تباشر الشركة عملها لأسباب غير واضحة، يُقال إن جزءاً منها حجم التكاليف المرتفعة، بالإضافة إلى معوّقات تقنية، بينما يعتقد آخرون أن الأسباب سياسية، مرتبطة بالأجندة الروسية في سوريا، والتي لا يندرج ضمنها حالياً الاستثمار في قطاع الطاقة، وخصوصاً في الآبار البحرية. وبناءً عليه، فإنه لا يبدو أنه ستكون لسوريا أيّ حصة من بيع الغاز إلى أوروبا، وهي لن تنافس جاراتها في هذا المجال، ولن تتمكّن من الاستفادة من الأزمة العالمية الحالية، بل على العكس، ستتضرّر منها بفعل ارتفاع أسعار النفط والغاز في العالم.
تعدّ منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً شرقيّ المتوسط، حقلاً مليئاً بالألغام المعقّدة والمفاجئة


أمّا لبنان، فيطمح إلى الانخراط في «حملة» تأمين البدائل للغاز الروسي. وهو يجد أن لديه فرصة كبيرة و«ذهبية» في هذا المجال، في حال استغلالها كما يجب. لكن، دون استغلال هذه الفرصة عقبات كبرى، تؤخّر إلى الآن البدء بالتنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية، بدءاً من ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي، مروراً بالضغوط السياسية التي منعت الشركات الأجنبية من استكمال التنقيب في المياه اللبنانية، وصولاً إلى فساد المؤسسات، وعراقيل المناكفات السياسية الداخلية. واليوم، تجرى مفاوضات شاقّة، غير مباشرة، بين الحكومة اللبنانية والعدو الإسرائيلي، بوساطة أميركية، لترسيم الحدود البحرية. ويبدو حتى الآن، أن الأمور آخذة في التعقيد، وخصوصاً مع تهديد المقاومة اللبنانية بـ«منع العدو من العمل في الحقول البحرية الفلسطينية المحتلّة، في حال عدم السماح للبنان بالعمل في حقوله». ولكن، حتى لو تمّ التوصل إلى اتفاق مع العدو خلال وقت قريب، فإن الاستفادة اللبنانية تحتاج إلى سنوات حتى تتحقّق، فيما الاستفادة الأوروبية تتركّز على الغاز الإسرائيلي الواعد والجاهز للتصدير، مع ما تعنيه تهديدات المقاومة من تعطيل لهذه الإمكانية. وبناءً عليه، فإن المعوّقات الكبيرة والجوهرية المزروعة في طريق لبنان نحو التنقيب والاستخراج والتصدير تدفعه إلى خارج خريطة البدائل في الحوض الشرقي للمتوسّط، على المدى القريب، على الأقلّ.

إسرائيل متحفّزة وتركيا طامحة
إلى اليوم، تبدو إسرائيل أكثر أطراف شرقي المتوسّط تحفّزاً للاستفادة من الفرصة العالمية. والى جانب الحافزية، تملك إسرائيل قدرة عملية على الاستفادة من الفرصة. ففي عام 2021، أنتج الكيان ما مجموعه 10.81 مليارات متر مكعّب من الغاز الطبيعي من حقل ليفاثان، بزيادة كبيرة عن إنتاج عام 2020 والذي بلغ 7.32 مليارات متر مكعّب. بالإضافة إلى ذلك، أنتج حقل تمار 8.69 مليارات متر مكعّب في عام 2021. وتُصدّر إسرائيل ما بين 8 و10 مليارات متر مكعّب من الغاز سنوياً، وتستهلك باقي الغاز المنتج محلياً (1). كما تُصدّر ما بين 3 و4 مليارات متر مكعّب إلى مصر، عبر أنبوب عسقلان - العريش، ليجري تسييلها في محطّتَي «إدكو» و«دمياط» المصريتَين، ثمّ نقلها عبر السفن إلى أوروبا. وتبلغ القدرة الاستيعابية للأنبوب المذكور، نحو 7 مليارات متر مكعّب سنوياً فقط، فيما تبلغ قدرة محطّتَي الإسالة المصريتَين نحو 17 مليار متر مكعب سنوياً (علماً بأنه لا وجود لمحطّات إسالة في الأراضي المحتلّة)، ما يعني أن القدرة القصوى لدى الكيان اليوم لتصدير الغاز لا تتجاوز 7 مليارات متر مكعّب في السنة. وإذا أراد زيادة صادراته الغازية، فهو يحتاج إلى أنبوب جديد يربطه بمصر، بالنظر إلى أنه لا اتفاق مع تركيا حتى الآن على نقل الغاز إلى أوروبا عبرها، بينما مشروع خطّ أنابيب «EastMed» الذي كان من المفترض أن ينقل الغاز من إسرائيل إلى اليونان، مروراً بقبرص، أُلغي بسبب ضعف الجدوى الاقتصادية. وحتى لو استطاعت إسرائيل تعظيم فائدتها من الفرصة الدولية الراهنة، فإن ما تقوم به لا يشكّل خرقاً كبيراً في الحاجة الأوروبية من الغاز، ولا يعدو كونه جزءاً صغيراً من مجموعة كبيرة من البدائل التي تسعى بروكسل إلى تأمينها.
أمّا بالنسبة إلى تركيا، ففي عام 2020، أُعلن عن اكتشاف حقل غاز ساكاريا في البحر الأسود. وحتى اليوم، تمّ اكتشاف ما مجموعه 540 مليار متر مكعّب من الغاز، في هذا الحقل. وستقوم شركة البترول التركية بحفر ما يصل إلى 40 بئراً في ساكاريا بحلول عام 2028، عشر منها ستكون جاهزة بحلول عام 2023 في المرحلة الأولى من التطوير. ومن المتوقّع أن تنتج الآبار العشر مجتمعة 10 ملايين متر مكعّب يومياً، أي ما يعادل 3.5 مليارات متر مكعّب سنوياً، وسيزداد الإنتاج تدريجياً. وستشمل المرحلة الثانية تطوير الآبار المتبقّية بإنتاج إجمالي قدرُه 20 مليار متر مكعّب في السنة، كحدّ أقصى بين عامَي 2023 و2028 (2). ومن المتوقّع أن يغطّي المشروع بأكمله حوالي 30٪ من الطلب المحلّي على الغاز. وعليه، فإنه يبدو صعباً أن تلجأ تركيا إلى تصدير غازها إلى أوروبا، لأن الكمّية الموجودة ليست كبيرة بما يغيّر المشهد. لكن الحكومة التركية لا تكتفي بما هو مكتشَف، بل هي تسيّر أعمال تنقيب مستمرّة، أملاً بالعثور على كميات كبيرة تتيح لها مشاركة الدول الأخرى في «الكعكة» الأوروبية، والاستفادة من الفرص الاقتصادية، في ظلّ أزمة اقتصادية تركية مستمرّة.

مخاطر أمنية حيّة
تعدّ منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً شرقيّ المتوسط، حقلاً مليئاً بالألغام المعقّدة والمفاجئة. وحيث إن «الأمن» يشكّل عاملاً أساسياً لجذب الاستثمار وضمان استمراره، وخصوصاً في مجال الطاقة، فإن المراهنة على استقرار تدفّقات الغاز من هذه المنطقة تحمل شيئاً من المغامرة والمخاطرة. ومثال على ذلك، ما يطالب به لبنان من حقوق في ثرواته في البحر، وتهدّد المقاومة بأنه في حال عدم نيلها، فإنها ستمنع العدو الإسرائيلي من الاستخراج في حقول كاريش، و«ما بعد، ما بعد، كاريش»، بحسب تعبير الأمين العام لـ»حزب الله»، السيد حسن نصر الله. وخلال الأيام الأخيرة فقط، أطلقت المقاومة الفلسطينية (الجهاد الإسلامي) مسيّرة مفخّخة باتجاه منصة الغاز «تمار» الواقعة قبالة ساحل أسدود. ويُعدّ هذان مثالَين حيَّين عن الألغام التي يمكن أن تنفجر في المنطقة في أيّ لحظة، وتُعطّل تدفقات غازية محدّدة، هذا فضلاً عن المخاطر التي تحيط بالملاحة البحرية عبر المضائق والمعابر، حيث تقع «حوادث» أمنية كثيرة، ناتجة من الصراعات بين قوى المنطقة.

(1) و(2): محمد حسن سويدان، «خارطة الغاز الأوروبي: بين روسيا والمصادر البديلة»، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، سلسلة دراسات وتقارير، العدد 29، نيسان 2022.