بعدما أدّى الاتفاق الأميركي - السعودي في قمّة جدة إلى تراجُع أسعار النفط، مِن ما فوق المئة دولار إلى حدود الـ 85 دولاراً، جاءت بوادر التوصُّل إلى اتّفاق نووي بين أميركا وإيران، لتُعيد لمّ شمْل المتضرّرين منه داخل «أوبك بلاس»، ولا سيما السعودية وروسيا، دافعةً المنظّمة إلى تحويل سياستها فجأة، من زيادة تدريجية للإنتاج إلى خفْض محتمل، ضمن اتّفاق جديد سيسري بعد نهاية هذا العام. وإذا كانت معارضة السعودية، ومعها إسرائيل، للاتّفاق النووي معروفة، وتعود إلى خوفها ممّا تعتبره هيمنة إيرانية على الشرق الأوسط، فإن روسيا أيضاً تَنظر إلى صفقة كهذه بعيْن القلق، كونها ستؤدّي إلى زيادة أكثر من مليون برميل نفط يومياً من الإنتاج العالمي تُوفّرها إيران، فضلاً عن ضخّ 50 مليون برميل دفعة واحدة في الأسواق، من النفط المخزّن الذي لم تستطع طهران بيعه بسبب العقوبات. وذلك من شأنه تغيير دينامية أسواق النفط كلّها، من خلال كسر أسعاره، الأمر الذي ترى موسكو فيه إضعافاً لقدرتها على إشعار المجتمع الغربي بكامله بأن تحريض حكوماته على حرب أوكرانيا، هو المسؤول عن اضطراره إلى دفع أثمان أعلى للمشتقّات النفطية التي تمسّ جوهر حياته، سواء في ما يتعلّق بالاستهلاك اليومي لوقود السيارات أو التدفئة، أو في انعكاس ارتفاع أسعار النفط زيادةً في تكاليف مجمل السلع والخدمات.لا يعني كون روسيا وإيران حليفتَين في ملفّات كثيرة ومهمة، أن تتطابق مصالحهما تماماً، ولا سيما أن أسواق الطاقة تحتمل التنافس بين الحلفاء. وعليه، ليس التوصّل إلى صفقة نووية مع أميركا، والذي يمثّل عودة إلى الاتفاق مع مجموعة «5+1» التي تضمّ روسيا، خروجاً إيرانياً من التحالف مع الأخيرة، وإنّما ممارسة لحقّ إيران الطبيعي في بيْع نفطها في الأسواق العالمية بالأسعار الفعلية، متى ما لبّت واشنطن الحدّ الأدنى من الشروط المقبولة إيرانياً، وهو ما طال حرمان طهران منه لأسباب سياسية. ولأن الأمور في أسواق الطاقة تَحكمها المصالح، فإن موسكو، في الوقت الذي لا تبدو فيه متحمّسة للعودة إلى «خطّة العمل المشتركة الشاملة»، تسعى في المقابل إلى الاستفادة من مصلحة مشتركة مع طهران، من خلال إنشاء كارتيل للغاز مُوازِ لـ«أوبك»، في ما يمثّل فكرة قديمة كان قد طرحها المرشد الإيراني علي الخامنئي، على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، منذ سنوات.
الصدمة النفطية التي تريد واشنطن إحداثها تضع ابن سلمان من جديد تحت رحمة بايدن


ويُعدّ توقيع مذكّرة التفاهم الشهر الماضي بين شركة «غازبروم» الروسية وشركة النفط الوطنية الإيرانية بقيمة 40 مليار دولار، بحسب موقع «أويل برايس» المتخصّص بالنفط، خطوة كبيرة على هذا الطريق، الذي سيتيح مزيداً من التحكُّم في إمدادات الغاز العالمية وأسعاره. وتتضمّن المذكّرة، وفق الموقع نفسه، أربعة عناصر ضرورية لقيام منظّمة غازية على غرار «أوبك»، أوّلها تعهُّد «غازبروم» بالدعم الكامل لإيران في مشروع قيمته 10 مليارات دولار لتطوير حقلَي كيش وفارس الشمالي؛ والثاني المساعدة الكاملة في مشروع قيمته 15 مليار دولار لتطوير حقل فارس الجنوبي على الحدود المائية بين إيران وقطر. أمّا العنصر الثالث فهو تقديم «غازبروم» العون لإيران في تطوير عدّة مشاريع للغاز الطبيعي المسال ومدّ أنابيب لتصدير الغاز. وآخر عنصر هو قيام روسيا بتشجيع دول أخرى منتِجة للغاز في الشرق الأوسط على الانضمام إلى الكارتيل الجديد بشكل تدريجي.
ومن المفترض أن تضمّ المنظّمة العتيدة كلّ أعضاء منتدى الدول المُصدِّرة للغاز، والذي تَأسّس في طهران عام 2001 ويتّخذ من الدوحة مقرّاً له، وتستحوذ الدول الـ 12 المنتمية إليه على 42 في المئة من إنتاج الغاز العالمي و73 في المئة من الاحتياط العالمي، وبالتالي يمكنها التحكُّم بالأسعار. وتريد موسكو وطهران اللتان تحتلّان، على التوالي، المركزَين الأوّل والثاني في الاحتياط العالمي، بسط سيطرتهما على شبكة إمدادات الغاز، سواء الذي يُنقل عبر الأنابيب، أو ذلك الذي يُشحن عبر السفن، بعد تسييله. ويشير توقيع المذكّرة المُشار إليها إلى أن الروس توصّلوا إلى خلاصة مفادها أنه بعد ازدياد استهلاك الغاز في العالم، لم يَعُد ممكناً التحكُّم بإمداداته وأسعاره، إلّا من خلال التنسيق الوثيق بين كبار المنتجين، وأن الحاجة إلى المنافسة على الحصص السوقية انتفت الآن، بما يسوّغ إنشاء منظّمة مِثل «أوبك» تنظّم الحصص الإنتاجية. تُضاف إلى ما تَقدّم، الضرورات الاستراتيجية للبلدَين اللذين يلتقيان على الكثير من عناوين مواجهة السيطرة الأميركية في أجزاء مختلفة من العالم.
المصالح النفطية والغازية تُبرّر لموسكو التحالف مع طهران في موضوع الغاز، والتحالف مع السعودية ضدّها في موضوع النفط. وما حصل في «أوبك بلاس» قبل أيام قليلة، يؤكد العودة إلى التحالف بين روسيا والسعودية في هذه الجزئيّة، وهو ما لخّصه وزير النفط السعودي، عبد العزيز بن سلمان، بقوله إن المنظّمة لديها الوسائل والمرونة للتعامل مع التحدّيات بما يشمل خفض الإنتاج. ودفَع هذا التصريح الأسعار صعوداً، ليعود خام غرب تكساس الوسيط إلى نحو 95 دولاراً، بعدما انخفض قبل أيام إلى 85 دولاراً. وما لم يَقُله الوزير علناً، تولّت حسابات معروفة على «تويتر» يديرها مقرّبون من وليّ العهد، محمد بن سلمان، التعبير عنه، كما فعل حساب «ملفّات كريستوف» الذي رأى أن التنازلات السياسية لإيران وفنزويلا وغيرهما من الدول المصدِّرة للنفط لن تؤدّي بالضرورة إلى زيادة المعروض العالمي.
وترى السعودية والإمارات أن توقيع صفقة نووية مع إيران، من دون أخذ مصالحهما بالحسبان، هو تجاوُز لما اتُّفق عليه في قمّة جدة، يجعلهما في حِلٍّ من التعهّد للرئيس الأميركي، جو بايدن، بزيادة إنتاج النفط لتخفيض الأسعار، فيما ترى إسرائيل نفسها الخاسر الأكبر مِن مِثل هذه الصفقة. ولذلك، فإن الولايات المتحدة كانت معنيّة بنقل رسالة طمْأنة إلى معارضي الاتفاق النووي، وخاصة دول الخليج وإسرائيل، مُفادها أن الاتفاق ينحصر بالملفّ النووي، ولا يشمل أيّ شيء آخر، من قبيل إطلاق يد طهران في الشرق الأوسط، حتى تُريح واشنطن نفسها من عبء كبير يتمثّل في دعم الحلفاء في المنطقة؛ وتمثّلت تلك الرسالة في إعلان الولايات المتحدة قصف طائراتها موقعاً للحرس الثوري الإيراني في سوريا بتوجيه من بايدن. لكن حتى مجرّد الصدمة النفطية التي تريد الولايات المتحدة إحداثها من خلال الصفقة النووية، والمُتوقّع أن تؤدّي، إذا ما تمّت، إلى خفض جوهري لأسعار الخام، هي في غير مصلحة الرياض وأبو ظبي، لأنها تُفقدهما ورقة الضغط الأساسية على الإدارة الأميركية لحماية نظامَيهما، ما يضع نظام وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، وحلفاءه في الخليج، من جديد تحت رحمة بايدن.