ضرورة إيجاد بدائل للنفط والغاز الروسيَّين بالنسبة إلى الدول الأوروبية، رسّخت القناعة في أوساط الباحثين والمحلّلين، بأن الأخيرة وحليفتها الولايات المتحدة، ستسعيان إلى تذليل أيّ عقبات تَحُول دون عودة جميع الأطراف إلى الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني. التداعيات الكارثية، الاقتصادية والاجتماعية، وربّما السياسية الداخلية، على البلدان الأوروبية، نتيجة انقطاع الغاز والنفط الروسيَّين، وما يصاحبه من ارتفاع كبير في أسعار الطاقة عالميّاً، وكذلك الأولوية المعلَنة للمعسكر الغربي بالتركيز على المواجهة الدائرة مع روسيا على الساحة الأوكرانية، كان من المفترض أن يشجّعا مقاربةً براغماتيّة مع إيران تتيح التوصُّل إلى تفاهمات معها. وأتت المواقف الصادرة عنها، في الآونة الأخيرة، بخاصّة تلك المتّصلة بعدم الإصرار على إزالة إدراج الحرس الثوري من القائمة الأميركية للمنظّمات الإرهابية، والتي حازت على ثناء الأطراف الغربية، كمؤشّر على عزمها الجدّي على التوصّل إلى مثل هذه التفاهمات.غير أن بيان «الترويكا الأوروبية» (فرنسا وألمانيا وبريطانيا)، الذي اعتبر أن طهران «اختارت عدم انتهاز فرصة ديبلوماسية حاسمة، وواصلت، بدلاً من ذلك، التصعيد في برنامجها النووي»، والذي تلا بياناً أميركيّاً بنفس المعنى، بدَّد التفاؤل بإمكانية عودة سريعة إلى الاتفاق النووي. المقصود بعبارة «التصعيد في برنامجها النووي»، هو رفض إيران لِمَا ورد في تقرير «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» الأخير، حول أن «مخزونها من اليورانيوم المخصب يتجاوز بـ19 مرّة الحدّ المسموح به»، وأن الوكالة لا تستطيع التأكيد أن برنامجها النووي «سلمي حصراً»، مكرّراً اتهامات متعلّقة بالعثور على آثار يورانيوم في ثلاثة مواقع إيرانية، استندت أساساً إلى معلومات إسرائيلية. يتناقض هذا التشدُّد الغربي المفاجئ حيال إيران، بنظر البعض، مع ما يمليه الحدّ الأدنى من المنطق، انطلاقاً من الاعتبارات الاستراتيجية والاقتصادية - الاجتماعية المذكورة سابقاً، أي التعامل بمرونة عالية معها، على الأقل في السياق الدولي الراهن. محاولة تفسير خلفيّات هذا التناقض بين ما يُفترض أن يكون، وبين ما يحصل فعلاً، ضروري لفهم العوامل المؤثّرة في صنْع السياسات الغربية في الظروف الحالية، وأهمّها إرادة قادة الغرب بتظهير وحدتهم في مقابل جميع الخصوم، أي ليس روسيا وحدها، بل كذلك إيران والصين، ودور المنظومة الصهيونية، وهي ليست مجرّد «لوبي»، في الدفْع لاعتماد أكثر التوجّهات عدائيّة في مقابل طهران.

تظهير وحدة المعسكر الغربي
كشفت الحرب الأوكرانية اعتقاداً راسخاً ومشتركاً لدى قيادات الغرب الرئيسة في واشنطن وباريس ولندن وبرلين، بأن الأخير يخوض معركة مصيرية دفاعاً عن موقعه «الريادي»، أي المهيمن، على الصعيد العالمي. قبل الحرب الأوكرانية، كانت أطروحة دخول العالم في حقبة «ما بعد الغرب» تلاقي قبولاً وتبنّياً ليس من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وحده، بل كذلك من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومن مسؤولين أميركيين سابقين من وزن هنري كيسنجر وريتشارد هاس، وحتى من طوني بلير. ومع الهروب الأميركي من أفغانستان، السنة الماضية، الذي سُمّي انسحاباً، انضمّ إلى فريق «الانحداريين»، أي القائلين بانحدار الغرب، فرنسيس فوكوياما، المنظّر السابق لأبديّة النموذج الأميركي، ونيلز فيرغسون، المسكون بالنوستالجيا الإمبراطورية. لكن انفجار المواجهة في أوكرانيا، أدّى إلى انقلاب كامل في الخطاب السائد، وبدأ الحديث عن «إحياء الناتو» و«عودة الغرب» للذود عن الديموقراطيات في مواجهة التهديد الشمولي.
النخب الغربية تعتبر أنها في حالة حرب، وتحاول تعبئة مجتمعاتها على هذا الأساس


في الأسابيع الأولى من النزاع، كان التقدير السائد هو أن دولاً أوروبية، كألمانيا وفرنسا وإيطاليا ستتجنّب الانجرار إلى تصعيد كبير مع روسيا، وستُبقي قنوات اتصال معها لعدم إغلاق الباب أمام إمكانية التسوية السلميّة معها. غير أن انجراف هذه الدول خلف الاستراتيجية الأميركية، وتضحيتها بمصالحها المشتركة الضخمة مع روسيا في ميدان الطاقة، أكد عدم دقّة مثل هذا التقدير. الواقع هو أن المعسكر الغربي، بشقّيه الأميركي والأوروبي، وجد في هذه الحرب فرصةً لمحاولة استعادة هيمنته المترنّحة. تحقّقت هذه الهيمنة، تاريخيّاً، من خلال الحرب أوّلاً وأساساً، واستمرت بفضلها، أو من خلال التلويح باللجوء إليها لردع الرافضين لها. المنطق الفعلي للمقاربة الغربية الراهنة، هو التالي: سنهزم روسيا، فنردع الصين ونُخضِع إيران، ونكرّس زعامتنا للعالم مجدّداً. لا يمكن فهْم التعاطي الغربي الحالي مع إيران، وافتعال أزمة معها بالاستناد إلى تقارير إسرائيلية، إذا تجاهلنا مثل هذا المنطق. الأطراف الغربية مدركة لاستحالة قبول طهران لتقرير «وكالة الطاقة» الأخير، لكن ما تريده ببساطة هو إخضاعها، كما رأى مستشار الوفد الإيراني المفاوِض، محمد مرندي. المصلحة الغربية الأولى هي استعادة الهيمنة، التي ستوفّر لدوله بعدها انصياع بقيّة دول المعمورة لإملاءاتها في الميادين السياسية والاقتصادية.

دوْر المنظومة الصهيونية
السياق الدولي الراهن، أي سياق سَعْي الغرب إلى استعادة هيمنته، مثاليّ بالنسبة إلى إسرائيل والمنظومة الصهيونية في الغرب. زرْع الكيان الصهيوني في قلْب المنطقة تمّ أساساً في إطار توسُّع السيطرة الغربية عليها وكقاعدة متقدّمة لخدمة مصالحها ومخطّطاتها. غير أن واقع العلاقة بين الأصيل، أي الغرب، والوكيل، تغيَّر كثيراً بين مرحلة إنشاء الكيان والمرحلة الحالية. عندما يعلن بايدن، خلال زيارته إلى المنطقة، التي بدأت من إسرائيل، أنه صهيوني، ويصرّ ماكرون على مساواة مناهضة الصهيونية باللاسامية، ويتنافس قادة أبرز الأحزاب السياسية الألمانية اليسارية واليمينية لإظهار ارتباطهم العضوي بالكيان الغاصب، فإن الاستنتاج البديهي هو أن جميع هؤلاء لا يفعلون ذلك لاستدرار عطف وتأييد «لوبي يهودي أو إسرائيلي». هم يعكسون قناعتهم، المشتركة مع قطاعات وازنة من النخب السياسية والاقتصادية في بلدانهم، بأن إسرائيل جزء لا يتجزّأ من الغرب، وبأن تأمين شروط إدامة تفوّقها العسكري والاستراتيجي، والتصدّي لأيّ مخاطر تُحدِق بها، وفي مقدّمتها تلك المتمثّلة بإيران ومحور المقاومة، هي بين أهدافهم الرئيسة. المنظومة الصهيونية في الغرب تضمّ إلى منظّمات اللوبي الإسرائيلي المعروفة، تيارات في الأحزاب السياسية الكبرى، وشبكات داخل مؤسّسات الدولة المختلفة وفي عالم الأعمال ووسائل الإعلام والوسط الثقافي. إيران، بنظر جميع هؤلاء، ونتيجة لموقفها من إسرائيل، قوّة معادية ينبغي إضعافها والعمل على إخضاعها في أقلّ تقدير.
النخب الغربية تعتبر أنها في حالة حرب، وتحاول تعبئة مجتمعاتها على هذا الأساس، وتظنّ أن الانتصار في أوكرانيا سيكون فاتحةَ انتصارات إضافيّة ضدّ بقية الخصوم، ومنهم إيران. غير أن ارتفاع كلفة هذه الحرب، وتعاون جميع المستهدَفين من هذه العدوانيّة الغربية لمضاعفة أكلافها، قد يرغم المسؤولين عنها على مراجعة حساباتهم.