موسكو | شكّلت القمّة التي جمعت الرئيسَين، الصيني شي جين بينغ، والروسي فلاديمير بوتين، مطلع شباط الماضي، دليلاً واضحاً على المستوى الذي بلغتْه العلاقات بين البلدَين. يومها، وقّع الرئيسان وثيقة مشتركة باسم «الإعلان المشترك بخصوص دخول العلاقات الدولية عهداً جديداً والتنمية المستدامة»، إضافة إلى التوقيع على اتّفاقيات تجارية واقتصادية. كان ذلك بمثابة إعلان صريح عن تقاطع البلدَين عند رفض الهيمنة الأميركية على العالم ومواجهتها، لتأتي الحرب الروسية على أوكرانيا، وتدْفع بهذا التقاطع قُدُماً، في إطار ما يسمّيه الجانبان «السعي لعالم جديد متعدّد الأقطاب، قِوامه العدالة واحترام سيادة الدول».في آب الفائت، عقب مباحثات بين وزيرَي الخارجية الصيني والروسي في بكين، شدّد بيان الخارجية الصينية على أنه «لا ينبغي لروسيا والصين تعزيز تعاونهما فحسب، بل يجب أيضاً مقاومة هيمنة العالم الغربي». كما شدّد على أنه في ظلّ الوضع الحالي «يتعيّن على الصين وروسيا تعزيز التنمية الإقليمية بشكل مشترك»، فضلاً عن «قيادة العملية الإقليمية لضمان الأمن الحقيقي». يومها، وصف الخبراء الروس لهجة الاجتماع بأنها مختلفة عن المعتاد، معتبرين أن العلاقات بين موسكو وبكين انتقلت بالفعل إلى مستوى جديد. بعد ذلك بشهر، دافع بوتين، خلال لقائه نظيره الصيني على هامش قمّة دول «منظّمة شنغهاي للتعاون»، بأن «التوافق بين موسكو وبكين يلعب دوراً رئيساً في ضمان الاستقرار العالمي والإقليمي»، مضيفاً أن البلدَين يدافعان «بشكل مشترك عن تشكيل عالم ديموقراطي ومتعدّد الأقطاب على أساس القانون الدولي والدور المركزي للأمم المتحدة، وليس على بعض القواعد التي تَوصّل إليها طرف ما ويحاول فرضها على الآخرين من دون توضيح ماهيتها». من جهته، أكد شي أنه «في مواجهة التغيّرات الهائلة وغير المسبوقة في عصرنا، نحن على استعداد مع زملائنا الروس لنضرب مثالاً لقوّة عالمية مسؤولة، قادرة على أن تلعب دوراً رائداً لإحداث تغيير سريع في العالم، من إجل إعادته إلى مسار التنمية المستدامة والإيجابية».
وإذ ظلّ موقف بكين «المتوازن» من الأزمة الأوكرانية، مُرضياً لموسكو على طول الخطّ، فقد جدّدت الأخيرة خلال «قمّة شنغهاي»، على لسان بوتين، موقفها الدائم القائل إن «تايوان جزء من الصين، وإن العلاقة بين البرّ الرئيسي وتايوان هي قضية صينية داخلية، ولا يمكن لأحد التدخّل فيها». بناءً عليه، «ستستمرّ العلاقات الروسية الصينية في التحسّن»، وفق ما يؤكّده المدير العلمي لـ«معهد الصين وآسيا الحديثة» التابع لـ«أكاديمية العلوم الروسية»، ألكسندر لوكين. ويشير لوكين، في تصريح إلى صحيفة «فزغلياد»، إلى أن «بكين تدرك أكثر فأكثر أنه سيكون من الصعب التفاوض مع واشنطن بشأن أيّ قضية. لذلك، تتطوّر اتصالاتها بشكل أوثق مع الشركاء الذين يتّخذون موقفاً معادياً للولايات المتحدة»، مضيفاً أن روسيا هي «أكبر دولة مِن بين كلّ الذين دعموا الصين في مواجهة زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي لتايوان».
بلغ التبادل التجاري بين روسيا والصين خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2022، 117.205 مليار دولار


إلى ذلك، يُعدّ تطوّر العلاقات الاقتصادية بين البلدَين، دليلاً إضافياً على تعمُّق «صداقتهما»، إذ وصل حجم تبادلهما التجاري خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2022، إلى 117.205 مليار دولار (علماً أنه في عام 2021 كاملاً، نحو 140 مليار دولار)، فيما يَتوقّع الجانبان أن يبلغ التبادل المُشار إليه 200 مليار دولار، بحلول 2024. ويعود الارتفاع في حجم التجارة البيْنية، أساساً، إلى تزايُد كمّيات النفط الروسي المُصدَّرة إلى الصين، التي استفادت من السعر التفضيلي المقُدَّم لها من موسكو، فضلاً عن تزايُد إمدادات الغاز عبر خطّ أنابيب «قوة سيبيريا»، علماً أن الدولتَين تعملان أيضاً على استكمال خطّ أنابيب «قوة سيبريا 2»، الذي سيكون بمقدوره نقل قرابة 50 مليار متر مكعّب إضافي سنوياً من الغاز الروسي إلى الصين. وبالإضافة إلى ما ذُكر، ضاعفت بكين مشترياتها من الفولاذ والفحم والذهب من روسيا، مستفيدةً من الأسعار التفضيلية المُقدَّمة لها من قِبَل الأخيرة. وفي هذا الإطار، يرى سيرغي ريكيدا، الأستاذ المساعد في قسم التكامل الاقتصادي الأوراسي في «معهد القانون والأمن القومي» في «أكاديمية الاقتصاد والإدارة الوطنية» التابعة لرئاسة روسيا، أن «الصين براغماتية للغاية تجاه روسيا»، موضحاً أنها «تحاول الاستفادة من بيئة الأسعار الملائمة لموارد الطاقة الروسية. الشركاء الآسيويون الآخرون، مثل الهند، يتّخذون الموقف نفسه».
مع ذلك، ثمّة مخاوف روسية من إحجام الشركات الصينية عن تعزيز التعاون مع الجانب الروسي، خشية تعرُّضها لعقوبات. ووفقاً لسيرغي لوكونين، رئيس قسم شؤون السياسة والاقتصاد الصينية في «معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية» التابع لـ«أكاديمية العلوم الروسية»، فإن «الولايات المتحدة وأوروبا تمثّلان ما يَقرب من 30% من إجمالي تجارة الصين، فيما حصّة روسيا حوالي 2 - 3%». ولذا، يرى لوكونين أن الصين «لا تريد تعريض هذه العلاقات للخطر من أجل التجارة مع الاتحاد الروسي»، فيما يعرب مدير «معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية» في جامعة موسكو الحكومية، أليكسي ماسلوف، عن اعتقاده بأن بكين «تحاول اتّخاذ الموقف الأكثر مرونة، لأنها لا تستطيع بعد التخلّي عن الأسواق والتقنيات الأميركية».
وإلى جانب الصين، استمرّت الهند في تعزيز علاقاتها مع روسيا، على رغم كلّ الضغوط الغربية عليها للانخراط في حملة الضغط على الأخيرة. إذ رفضت نيودلهي الامتثال للعقوبات الغربية على موسكو، كما امتنعت مراراً عن التصويت على قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة المناهِضة لروسيا، فيما دعا رئيس الوزراء الهندي، ناريندا مودي، في محادثة مع بوتين، إلى اتّباع «الديبلوماسية والحوار» لحلّ الأزمة الأوكرانية. أمّا على الصعيد الاقتصادي، فكانت الهند أكثر المستفيدين من سعر النفط المخفَّض المقدَّم لها من روسيا، فضلاً عن أنها زادت مشترياتها من الغاز الروسي - والتي تخطّط لرفعها إلى أكثر من 2.5 مليون طنّ سنوياً - ، وضاعفت من حجم ما تستورده من الغاز والذهب الروسيَّين. وفيما يَصعب إجراء تقييم دقيق للبيانات المتعلّقة بالتجارة بين روسيا والهند للنصف الأوّل من عام 2022، بالنظر إلى أن دائرة الجمارك الروسية توقّفت عن نشْر بيانات عن الواردات والصادرات منذ نيسان الماضي، إلّا أن المؤكد أن اقتصاد الهند الكبير والمتنامي أصبح أحد المستفيدين الرئيسيين من العقوبات المفروضة على روسيا. وفي هذا السياق، يرى الأستاذ المشارك في «جامعة جندال العالمية»، أنورادا تشينوي، في ورقة بحثية نُشرت على موقع «منتدى فالداي»، أن «أمام الهند وروسيا الكثير من العمل بعد لتعميق التعاون الاقتصادي والتجاري». ويستدرك تشينوي بأنه أمام التحدّيات العالمية القائمة، فإن «الهند لن تُعرّض علاقاتها مع روسيا أو الغرب للخطر»، وهي ستحافظ على أن «لا تصبح جزءاً من أيّ كتلة أو أن تنحاز إلى طرف في الفترة الانتقالية التي يعيشها العالم من عدم اليقين». وانطلاقاً من ذلك، يَعتبر أن موقف نيودلهي «سيستمرّ كدولة محايدة ذات علاقات متناغمة مع روسيا والغرب» في الوقت نفسه.