تُمثّل الأزمات الدولية والحروب اختباراً فعلياً لمتانة التحالفات والشراكات التي نَسجها أفرقاؤها. أظهرت الحرب الأوكرانية إجماعاً استراتيجياً عميقاً بين الدول الغربية، على رغم الأزمات التي شهدتها العلاقات «بين ضفّتَي الأطلسي» في عهد دونالد ترامب مثلاً، إذ دفعت العديد من الخبراء إلى الحديث عن «غرب جماعي» (collective west)، يقف وِقفة رجل واحد للتصدّي لِما يصنّفه تهديداً مصيرياً. وهو يمتلك لهذه الغاية ذراعاً عسكرية موحّدة: حلف «الناتو». لا يوجد ما يوازي هذا الحلف في عالم اليوم. وعلى الرغم من أن «الصداقة بلا حدود» بين الصين وروسيا، التي جرى الإعلان عنها في 4 شباط الماضي، شكّلت نقلة نوعية في الشراكة المتعاظمة والمتعدّدة الميادين بين البلدَين، إلّا أنها لا ترقى إلى مستوى الاندماج العضوي بين القوى الغربية على المستوى العسكري، بقيادة أميركية طبعاً. غياب اندماج كهذا، إضافة إلى إحلال الرغبات مكان الوقائع، هو ما يحفّز المحلّلين الغربيين على النظر إلى أيّ تمايز في المواقف بين بكين وموسكو حيال النزاع في أوكرانيا، أو إلى وقْف بعض الشركات الصينية نشاطاتها في روسيا على أنه «تخلٍّ» من قِبَل الأولى عن الثانية. الطريف في التحليلات المتقدّمة هو أنها تقرّ بالطبيعة الاستراتيجية العالمية للنزاع المذكور، وبأن من بين أبرز أهداف «الغرب الجماعي»، إضافة إلى إضعاف روسيا إن لم يكن تدميرها، ردع الصين واحتواء صعودها؛ لكنها تَفترض أن بكين ستتّخذ قرارات تتعارض مع أمنها القومي ومصالحها العليا، خوفاً من عقوبات اقتصادية ومالية وتجارية غربية. الشراكة المتنامية بين بكين وموسكو، والتي تأتي نتاجاً لمسار طويل من تطوُّر العلاقات بين الطرفَين، والتعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية والعسكرية، محكومة أساساً بالاعتبارات الاستراتيجية، بسبب اقتناع قيادتَيهما بالاستهداف الغربي لهما. وقد عزّزت الحرب في أوكرانيا، وما كشفته من مخطّطات أميركية تجاه العملاقَين الآسيويَّين، بالتوازي مع تصاعد التوتّر الصيني - الأميركي في تايوان، هذا الاقتناع وزادته رسوخاً، وهو ما يرجَّح أن يفضي إلى توثيق عُرى تلك الشراكة لصدّ توحّش «الغرب الجماعي»، والمُضيّ قُدُماً في بناء الفضاء الأوراسي، في سياق تَفكّك العولمة وإعادة تشكيل فضاءات إقليمية وقارية بديلة.
خلال اللقاء الأوّل بين الرئيسَين الصيني والروسي بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، على هامش القمّة السنوية لـ«منظمة شنغهاي للتعاون» في سمرقند في 15 أيلول الماضي، حرِص شي جين بينغ على التأكيد، لِمَن يهمّه الأمر، على الطبيعة الاستراتيجية الطويلة الأمد للشراكة الروسية - الصينية. فهو رأى أن «الصين ترغب في بذْل جهود مع روسيا للقيام بدور القوى العظمى، والقيام بدور توجيهي لبثّ الاستقرار والطاقة الإيجابية في عالم تَهزّه الاضطرابات». أمّا فلاديمير بوتين، فقد دان «الاستفزاز من جانب الولايات المتحدة ومَن يدور في فلكها في مضيق تايوان»، قبل أن يجدّد التزامه بمبدأ «صين واحدة»، ويندّد بـ«محاولات إقامة عالم أحادي القطب، اتَّخذت في الفترة الأخيرة شكلاً قبيحاً للغاية». في ظلّ استعار المواجهة على الساحة الأوكرانية، يَجهر الرئيسان بهدفَيهما المركزيَّين المشتركَين، وهما التصدّي لمساعي استعادة الهيمنة الغربية الأحادية؛ والانتقال إلى عالم متعدّد الأقطاب. هذا على مستوى الموقف السياسي الرسمي لصانعي القرار في البلدَين، أمّا على مستوى العلاقات البيْنية، وعلى عكس ما تروّج له أجهزة الدعاية الغربية، فإن التعاون في ميادين متعدّدة يشهد تطوّراً مطّرداً. وقبل التطرّق إلى وضعها الحالي، لا بدّ من التذكير بأن العلاقات الصينية - الروسية اتّبعت مساراً تصاعدياً منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، وانتقلت من التقاطع الظرفي في المصالح إلى التعاون المتنامي، ومن ثمّ إلى الشراكة الطويلة الأمد. وقد كان للسياسة الأميركية المعادية دور حاسم في دفع موسكو وبكين إلى توثيق صِلاتهما، وتحديداً بعد إشهار إدارة باراك أوباما سياسة «الاستدارة نحو آسيا» ضدّ الصين أواخر 2012، و«الثورة الملوّنة» التي رعتْها واشنطن في أوكرانيا في 2014، والتي أدّت إلى التدخّل الروسي في شرق هذا البلد وضمّ القرم.
لم تفلح الضغوط الغربية، والتلويح بعقوبات مهولة ضدّ بكين، في هدْم ما أُنجز بينها وبين موسكو


على المستوى السياسي، تَعزّز التنسيق بين البلدَين، بدءاً بامتناع بكين عن التصويت ضدّ الاستفتاء الذي نُظّم في القرم في مجلس الأمن، مروراً بالسعي للتعاون في آسيا الوسطى، واستخدام حقّ «الفيتو» 6 مرّات في مجلس الأمن ضدّ قرارات معادية لسوريا. وعلى المستوى العسكري، تنبغي الإشارة إلى اتّفاقية «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» التي تَجمع بينهما منذ 2011، والتي تُرجمت بعشرات المناورات العسكرية المشتركة منذ ذلك التاريخ (أكثر من 40 مناورة)، وباجتماع سنوي بين هيئتَي أركان جيشَيهما، وبصفقات سلاح متبادلة. فقد حصلت الصين في 2015 على 24 مقاتلة روسية من طراز «SU - 35»، و6 منظومات دفاع جوّي من طراز «S - 400»، و4 غوّاصات. كما وقّع رئيسا البلدَين اتّفاقاً لإنتاج مشترك لـ 200 مروحية ناقلة للجند. ووفقاً لتقرير «معهد استوكهولم»، فإن 77% من واردات السلاح في الصين بين 2016 و2020 مصدرها روسيا. بكين، بدورها، تُصدّر السلاح إلى موسكو، وتحديداً المسيّرات وأنظمة معلوماتية وسفناً حربية. أمّا بالنسبة إلى الميدان الاقتصادي، فإن قرار القيادة الروسية منذ 2014 إعادة توجيه اقتصادها نحو آسيا والصين نجمت عنه استثمارات ضخمة للأخيرة في البنى التحتية في روسيا، وعقْد بقيمة 400 مليار دولار وُقّع في تلك السنة نفسها لنقل الغاز إلى الصين عبر أنبوب «power of Siberia»، الذي بات جاهزاً للاستخدام منذ 2019.
لم تفلح الضغوط الغربية، والتلويح بعقوبات مهولة ضدّ بكين، في هدْم ما أُنجز بينها وبين موسكو. فقد أشار تقرير صادر عن منتدى «فالداي» في أيلول، بعنوان «الشراكة الاستراتيجية الصينية - الروسية في سياق الأزمة في أوروبا»، أعدّه مدير البرامج في المنتدى، تيموفاي بورداشيف، وفريقه، إلى أن «المؤرّخين في المستقبل سيَنظرون إلى تاريخ 4 شباط 2022 (الإعلان عن الصداقة بلا حدود) على أنه بداية انهيار النظام الدولي القديم، ونشأة نظام دولي جديد». وبعد أن يستعرض تطوُّر الخطاب السياسي الرسمي الصيني منذ شباط حتى أوائل حزيران، وانتقاله من الاختيار الحذر لمفرداته إلى مواقف داعمة بوضوح لـ«مطالب روسيا الأمنية»، يَلفت معدّ التقرير إلى أن الطبيعة الفعلية للعلاقات بين البلدَين تتجلّى في استمرار المناورات العسكرية المشتركة بينهما، كما في أيار الماضي، عندما قامت قاذفاتهما الاستراتيجية بدوريات جوّية فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، أو بمشاركة قوّات وسفن حربية صينية في مناورات فوستوك في أيلول. أمّا على المستوى التجاري والاقتصادي، فإن «أكثر الميادين التي تشهد تعاوناً ديناميكياً في 2022 هي التجارة عبر الحدود، والعلوم والتكنولوجيا، والصناعة، والبنى التحتية. ففي الأشهر الـ 5 الأولى من 2022، وصل حجم التجارة البينية الى 65,8 مليار دولار، أي تجاوَز بـ 28,9 مليار دولار ذلك الذي كان سائداً في الفترة نفسها في 2021. وقد أعرب البلدان عن أملهما بأن يبلغ حجم التجارة بينهما 200 مليار دولار في 2024». وفي ميدان البنى التحتية، يعمل الطرفان على بناء شبكة من الجسور والسكك الحديد والطرق لتسهيل حركة الاستيراد والتصدير بينهما، كجسر «نيجنيلينسكوي - تيانغجين»، الذي شُيّد فوق نهر آمور أخيراً. أيضاً، التعاون في ميدان الطاقة تَعزّز خلال هذه السنة، بعدما أصبحت روسيا المصدّر الأوّل للنفط نحو الصين، بدلاً من السعودية، نتيجة قيامها بتخفيضات في أسعاره وصلت إلى ما يقارب الـ 30%. وخلال زيارة بوتين للصين في شباط الماضي، تمّ التوقيع على عقْد بين شركة «غازبروم» وشركة النفط الوطنية الصينية، لتُزوّد الأولى الثانية بـ 10 مليارات متر مكعّب من الغاز.
يعترف معدّو التقرير بأن ترسانة العقوبات الغربية نجحت في الحدّ من نشاط شركات صينية كبرى في روسيا، وخاصة تلك العاملة في قطاع الاتّصالات أو في الأسواق المالية. غير أن إدراكهم الأبعاد الاستراتيجية الحيوية للمجابهة الراهنة، بين واشنطن وحلفائها من جهة، وموسكو وبكين من جهة أخرى، ومراجعتهم مسار العلاقات الصينية - الروسية، أوصلتهم إلى الاستنتاج بأن هذه العلاقات بلغت أعلى مستوياتها في تاريخ التعاون بين البلدَين. ولا شك في أن سياسة الحرب المفتوحة التي يعتمدها «الغرب الجماعي»، والتي تقوم على فرضية كسر روسيا لردع الصين واحتوائها، وإخضاع بقية الخصوم، ستشجّع على تجاوُز المستوى المشار إليه من التعاون، لإفشال تلك السياسة ومنعها من تحقيق أهدافها.