باتت واضحةً استماتة القوات الأوكرانية في تحقيق انتصار في منطقة خيرسون، أكثر وضوحاً من ذلك الذي أحرزته في منطقة خاركيف، ويمكن بالتالي تسويقه أمام الأميركيين كمبرّر وجيه لاستمرار الدعم العسكري لكييف، خصوصاً في ظلّ توقّعات بأن يُقدِم «المعسكر الانعزالي»، في حال فوزه في الانتخابات النصفية، على قطْع هذا الدعم أو تقطيره. في المقابل، لا يبدو أن روسيا تستعجل إطلاق حملة عسكرية للدفاع عن الأراضي الواقعة تحت سيطرتها، أو المنضمّة إليها حديثاً من دون أن تكون في قبضتها؛ إذ يبدو أن هذه الحملة مؤجَّلة إلى الربيع، ريثما تكتمل عملية التعبئة، ويَثقل عبء شحّ مصادر الطاقة على الأوكرانيين والأوروبيين. وفي الانتظار، يَظهر أن موسكو ستُواظب على تصعيدٍ متوسّط الحدّة، مِن مِثل استهداف البنى التحتية المدنيّة، قبل أن تلجأ إلى أيّ خيار من النوع «النووي»
شكّلت الضربات الروسية التي استهدفت أخيراً البنى التحتية في أوكرانيا، انتقالاً إلى مرحلة أشدّ من الحرب المستعِرة منذ 8 أشهر في هذا البلد. وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اعتبر أن عملياتِ قصفٍ جديدة ليست ضرورية «حتى الآن»، فإن هذا التطوّر أثار تساؤلات جدّية بين المحلّلين حول الخيارات التي تمتلكها روسيا حيال الانتكاسات التي مُني بها جيشها على أكثر من جبهة، وحول احتمال استخدامها أسلحة نووية تكتيكية. في الواقع، لم يُنجز الجيش الروسي، منذ سيطرته على ليسيتشانسك في تموز الماضي، أيّ تَقدّم في الميدان، بل اضطرّ إلى سلسلة من التراجعات منذ بداية أيلول الفائت. على أن «الهجوم المضادّ الأوكراني الناجح في منطقة خاركيف، والذي حقّق اختراقاً أيضاً في لوهانسك»، لم يسمح إلى الآن بانقلاب فعلي في موازين القوى، وفق ما يرى إيغور دولانوي، مدير «المرصد الفرنسي - الروسي». ومع أن الانهيار العسكري - اللوجستي الروسي الذي أعلنتْه مراراً وسائل الإعلام الغربية، يبدو أقرب إلى نوع من التفكير الرغبوي غير المطابق للوقائع، فإن اللجوء إلى السلاح النووي يبقى خطراً قائماً في حال وجود تهديد حقيقي للمصالح الحيوية الروسية.
تُقرّ العقيدة النووية الروسية المتضمَّنة في وثيقة بعنوان «مرتكزات سياسة الاتحاد الروسي في مجال الردع النووي»، والصادرة في 2 حزيران 2020، بإمكانية قيام موسكو «بضربات نووية محدودة وضدّ أهداف محدّدة، في إطار نزاع تقليدي لمنْعه من التحوّل إلى حرب شاملة». هذه الوثيقة تطرّقت، كذلك، إلى احتمالٍ قد ينطبق على مجريات الصراع الدائر في أوكرانيا، أي اللجوء إلى الترسانة النووية، كردّ «على استعمال أسلحة نووية، أو أسلحة دمار شامل ضدّ روسيا و/أو حلفائها، أو في حال تعرُّض الاتحاد الروسي لعدوان تقليدي يهدّد بقاء الدولة». الاحتدام المتسارع للمواجهة، والاختراق الأوكراني لأراضٍ تَعتبرها روسيا جزءاً منها بعد ضمّها الأقاليم الـ4، يقودان إلى تَوقّعات متباينة حول واقعيّة مِثل هذا السيناريو، والمدّة الزمنية التي ستتطلّبها ترجمته ميدانياً.
المجابهة على الساحة الأوكرانية ستكون طويلة، على الرغم من الضغوط الأميركية لحسمها بسرعة


يشير بونوا بيلوبيداس، الخبير في شؤون الردع النووي، ومؤلِّف كتاب «إعادة التفكير في الخيارات النووية، إغراء المستحيل»، إلى أن الإجابة على مِثل هذه التساؤلات مرتبطة بعوامل متعدّدة. هي منوطة بـ«حسابات بوتين، وبكيفية تشغيل هذه الأسلحة، وبطاعة أعضاء السلسلة القيادية للأوامر، وبالمستجدّات الكفيلة بتغيير الموازين في مسرح العمليات، وباحتمال إطالة أمد المعركة، وبمفاجآت من نوع اغتيال الزعيم الأوكراني أو الروسي، أو بعمليات تمرّد في أيٍّ من الجيشَين، أو بحادثٍ صناعي خطير في مفاعل زابوروجيا يسبّب إشعاعات في ساحة المعركة، أو بتوقّف الدعم الغربي لأوكرانيا بعد انتصار المعسكر الانعزالي في الانتخابات التشريعية القادمة في الولايات المتحدة». وبحسب بيلوبيداس، لا تتوفّر مؤشّرات إلى نيّة روسية لاستعمال الأسلحة النووية إلّا في سياق قرار بمحاولة إيقاف النزاع و/أو تجنّب هزيمة مذلة. «الأسئلة المركزية الـ3 هي: هل سنشهد مِثل هذا الاستعمال نتيجة لخطأ في التقدير، أو بمبادرة من دون أوامر بذلك، أو بسبب حادث؟ هل يتصوّر الرئيس الروسي مآلات محتمَلة للحرب لا تفرض قراراً منه باستخدام هذه الأسلحة؟ إذا اتّخذ مِثل هذا القرار، هل ستتيح القدرة التكنولوجية الفعلية ومستوى ولاء القيادة العسكرية له تنفيذه ميدانياً؟ الإجابات على هذه الأسئلة تنطلق من رهانات أخلاقية واستراتيجية، وهي ليست سهلة. لكن يبدو أن اللجوء إلى الأسلحة النووية ليس مستحيلاً»، بنظر الخبير.
يتقاطع إيغور دولانوي مع هذا التحليل، لأنه يعتقد أن تهديد المصالح الحيوية لروسيا، وفي مقدّمتها وحدتها الترابية وسيادتها، يزيد من احتمال الضربات النووية المحدودة والمحدَّدة الأهداف. غير أنه لا يتوقّع تلازُماً بالضرورة بين الاختراق الأوكراني الأخير ومِثل هذا القرار، لأن موسكو ترجّح راهناً تصعيداً متوسّط الحدّة. «رأينا أخيراً مِثل هذا التصعيد، كقصف البنى التحتية المدنية التي جرى تجنّبها في السابق. المجال ما زال مفتوحاً أمام هذا النمط من التصعيد ضدّ بنى تحتية أخرى، تشمل قصر زيلنسكي مثلاً. تَوقّعنا كذلك هجمات مكثّفة في الفضاء السيبراني في أوكرانيا وفي البلدان الأوروبية التي تدعم كييف، وهو أمر لم يحصل حتى اللحظة. لم نلحظ إلى الآن عمليات مشهدية، ولكن نستطيع أن نتخيّل مثلاً قيام روسيا بتدمير أقمار صناعية. ستسبق بالضرورة استعمالَ الأسلحة النووية، وهو فرضية لا أستبعدها في ظروف معيّنة، سيناريوات تصعيدٍ متوسّط الحدة: هجمات على أهداف عسكرية أوكرانية، استعراض للقدرات التدميرية في مناطق غير مأهولة بُغية التحذير من المضيّ في حربٍ تهدّد المصالح الحيوية لموسكو».
ووفقاً لدولانويه، فإن المجابهة على الساحة الأوكرانية ستكون طويلة، على الرغم من ضغوط الراعي الأميركي على كييف للسعي لحسمها بسرعة. «يتعرّض الديموقراطيون خلال حملة الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، لضغوط من الجمهوريين لا تتمحور حول وجاهة مساندة أوكرانيا، بل حول النتائج التي تمّ تحقيقها في الميدان. سيجهد الأوكرانيون في محاولاتهم إنجاز انتصار في منطقة خيرسون، أوضح من ذلك الذي تمّ في منطقة خاركيف، حيث نعلم أن الجيش الروسي في الحقيقة انسحب بشكل منظَّم، ومن دون معركة تُجبره على ذلك بعد خسائر كبيرة». يستعدّ الروس، من جهتهم، لحملة عسكرية في الربيع بعد التعبئة العامة الجزئية التي أمر بها بوتين. من المرجّح أن تسمح هذه العملية بحلّ مشكلة عدم القدرة على الدفاع الفعّال عن كامل أراضي المناطق الـ4 التي ضمّتها روسيا، والناجم أساساً عن النقص في عديد قواتها. «بموازاة هذا المسار الشديد التعقيد من ناحية التأطير والتجهيز والتدريب، هناك أيضاً الإعداد الجاري لحملة عسكرية تنطلق مع نهاية الشتاء بُغية استعادة الأراضي التي أصبحت تُعتبر روسية في دونباس وكراماتورسك، وربّما زابوروجيا، وهي ليست مهامَّ سهلة بالنسبة إلى الجيش الروسي. عند نهاية هذه الحملة، ستصبح الآفاق أكثر وضوحاً: إمّا موافقة روسيا على مفاوضات ديبلوماسية مع الأوكرانيين، أو متابعة الحرب، واندفاع الجيش الروسي جنوباً للسيطرة على ضفاف البحر الأسود»، يختم مدير «المرصد الفرنسي - الروسي».