حقق مرشّح «حزب العمّال» البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، عودةً سياسية مظفّرة إلى منصب الرئاسة، متغلّباً على اليميني المتطرّف، جايير بولسُنارو، الرئيس المنتهية ولايته ومرشّح «الحزب الليبرالي»، في واحدٍ من أصعب الانتخابات وأكثرها استقطاباً في تاريخ البلاد. وحصل النقابي السابق الذي أصبح رئيساً للبرازيل قبل 20 عاماً، على 50.9% من الأصوات (60 مليون صوت)، في مقابل 49.10% (58 مليوناً) حصل عليها بولسنارو. وفي كلمة ألقاها أمام الصحافيين في فندق في ساو باولو، فور إعلان النتائج، تعهّد لولا بـ«إعادة توحيد» بلاده التي تعاني من استقطاب طبقي وثقافي وسياسي عميق بين مكوّنات المجتمع، تَكرَّس بشكل فادح خلال فترة حُكم بولسنارو. وقال الزعيم «العمّالي»: «سنعيش أزمنة جديدة من السلام والحب والأمل»، مضيفاً: «سأحكم من أجل 215 مليون مواطن برازيلي، وليس فقط من أجل أولئك الذين صوّتوا لي. لا يوجد برازيلان. نحن بلد واحد، شعب واحد، أمّة عظيمة»، لأنه «ليس من مصلحة أحد العيش في بلد منقسم، وفي حال تصارع مستمر». وفيما كان الرئيس المنتخَب يلقي خطابه، انفجرت الشوارع احتفالاً، فتعانَق أنصاره المبتهجون، وأدمعت عيون كثيرين ممَّن همّشتهم سياسات حكومة بولسنارو، خلال السنوات الأربع الأخيرة.وبعودته إلى حُكم البرازيل، ينضمّ لولا إلى كوكبة من القادة «المعتدلين» المحسوبين على اليسار الديموقراطي، الذين وصلوا إلى السلطة أخيراً في عدد من دول أميركا اللاتينية، بعدما فشلت الأنظمة اليمينية - المدعومة تقليدياً من الولايات المتحدة - بشكل متراكم في إدارة اقتصاداتها، وهو ما خَلق مزاجاً متفجّراً من الاحتقان الشعبي؛ علماً أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية حذّرت أنصار بولسنارو، النقيب السابق في الجيش، من مغبّة الانقلاب على نتيجة الانتخابات. وأصدر الرئيس الأميركي، جو بايدن، الليلة الماضية، بياناً هنّأ فيه لولا على فوزه «بعد انتخابات حرّة ونزيهة وذات مصداقية»، قائلاً: «أتطلّع إلى العمل مع الرئيس البرازيلي المنتخَب لمواصلة التعاون بين بلدَينا خلال الأشهر والسنوات المقبلة». وتلاه بالتهليل لفوز دا سيلفا، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، ورئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز، والرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز، وعدد من قادة العالم.
فاز لولا بأصوات الفئات الفقيرة والطبقات العاملة والأقليات وقطاعات من المثقّفين


وكانت واشنطن قد اتّبعت، منذ بعض الوقت، سياسة تسامح مستجدّة تجاه مبدأ انتقال الحكومات في أميركا اللاتينية، نحو يسار الوسط، حيث يرأس المكسيك وكولومبيا وتشيلي قادة يساريون معتدلون وصلوا إلى السلطة في انتخابات نزيهة عموماً، وقد سارع هؤلاء إلى الترحيب بانضمام الزعيم اليساري البرازيلي المخضرم إليهم. وغرّد الرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو: «فَلْيحيا لولا»، فيما احتفى الرئيس المكسيكي، أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، بـ«انتصار العدالة والإنسانية». ومن شأن ردود الفعل الدولية العاجلة والمرحِّبة بحسم النتيجة لمصلحة لولا، أن تكبح جماح معسكر بولسنارو، الذي يُعدّ أوّل رئيس في البرازيل يفشل في الحصول على ولاية ثانية، خلال الخمسين سنة الأخيرة. واشتكى أنصار الرئيس المنتخَب من محاولات متعمَّدة من قِبَل أجهزة أمنية موالية للرئيس المنتهية ولايته، لإعاقة انتقال الناخبين من المناطق الفقيرة إلى مراكز الاقتراع، ما استدعى تدخُّلاً من الأجهزة القضائية. وهدَّد بولسنارو، خلال الحملة الانتخابية، بأنه لن يقبل نتيجة لا يكون هو الفائز فيها، مشكّكاً في نزاهة العملية الانتخابية، وملمّحاً إلى تآمر القضاء لمصلحة غريمه، لكنّه ابتلع النتيجة الآن، على أن يحاول العودة إلى السلطة مجدّداً بعد أربع سنوات. وقد أظهر الأداء القوي لبولسنارو في الانتخابات، ولا سيما في جولة الإعادة، أنه نجح بالفعل في صياغة حركة سياسية يمينية مستدامة ذات تأييد عريض وبيئات حاضنة تمزج بين البعدَين الطبقي والعرقي والمحافظة الثقافية والقومية الفاشيستيّة الطابع - يسمّيها الخبراء الـ«بولسناريسمو» -، ولا شكّ في أن لديها الآن من قوّة الاستمرار والمال ما يمكّنها من البقاء والتحضير لجولة قادمة.
ويحظى بولسنارو بتأييد البورجوازيين ورجال الأعمال وكبار مالكي المصالح الزراعيّة - التي تنتج عُشر غذاء العالم (حوالي 30% من الناتج المحلي) - ومنسوبي الطبقة الوسطى من سكّان المناطق الحضرية، ولا سيما في الجنوب الشرقي الأكثر تقدُّماً، كما الأصوليين المسيحيين من أتباع الكنيسة الإنجيلية. كذلك، يتمتّع بنفوذ قوي داخل الجيش والشرطة، وله مؤيّدون مؤثّرون على مواقع التواصل الاجتماعي. ويتّحد هؤلاء في اعتقادهم بأن لولا سيضع البرازيل على الطريق نحو الاشتراكية كما في كوبا أو فنزويلا، وسيقوّض القيم التقليدية من خلال دعمه للمثليين والعابرين جنسيّاً، ويتّهمونه أيضاً بأنه دمّر اقتصاد البلاد من خلال الفساد وسوء الإدارة خلال 15 عاماً (فترتَي حكمه، كما حُكْم تلميذته ديلما روسيف). وقد زرع بولسنارو أنصاره في مختلف مفاصل الدولة، وحقّق مرشحون مؤيّدون له نجاحات كبيرة في انتخابات الكونغرس وحكّام الولايات في الثاني من الشهر الماضي، والتي تزامنت مع الجولة الأولى من السباق الرئاسي. وقفز عدد مقاعد «الحزب الليبرالي» من سبعة إلى 13 مقعداً في مجلس الشيوخ المؤلّف من 81 عضواً، حيث باتوا يشكّلون أكبر كتلة، ومن 76 إلى 99 مقعداً في مجلس النواب المؤلّف من 513 عضواً. وفي ظلّ النظام السياسي البرازيلي المفتّت إلى حدٍّ كبير، ومع تمثيل 23 حزباً في المجلس التشريعي المقبل، فإن هذا يُعدّ نجاحاً كبيراً. كما فاز حلفاء بولسنارو - أو هُم على وشك الفوز - بمناصب حكّام الولايات الثلاث الأكثر اكتظاظاً بالسكان في الجمهورية، والتي تمثّل 40% من سكان البلاد: ساو باولو، وميناس جيرايس، وريو دي جانيرو.
في المقابل، فاز لولا بأصوات الفئات الفقيرة والطبقات العاملة والأقلّيات وقطاعات من المثقّفين المعادين للفاشيستية. لكن برنامجه السياسي والاقتصادي بدا باهتاً، وليس هنالك كبير تفاؤل لدى أحد بقدرته على عَكْسَ حال التردّي الاقتصادي والاجتماعي الذي تعانيه البلاد تاريخياً، وتفاقَم في العقد الأخير، فيما تبدو الانقسامات بين مكوّنات المجتمع البرازيلي مرشّحة لمزيد من التفاقم. وفي بلد يعاني اقتصاده من مشاكل بنيوية ويفتقر إلى العدالة الاجتماعية، لا يمتلك لولا المشروع الملهم، ولا القدرة التشريعية اللازمة لبناء نموذج جذري مستدام للنمو الاقتصادي العام، أو إصلاح أجهزة الدولة المفتقرة إلى الكفاءة بشكل مزمن، أو إنهاء الفساد المستشري في قلْب الحياة السياسية والاقتصادية، أو حتى اتّخاذ مواقف سياسية مستقلّة عن رغبات الغرب. وتحتاج البلاد إلى إصلاحات عاجلة للنظام الضريبي المعقّد، وترشيد للبيروقراطية المترهّلة، واستثمارات مستَحقّة لترميم البنية التحتية ونظام التعليم والخدمات العامة، وأيضاً بناء عقد اجتماعي جديد يسمح بكسر الشلل التشريعي الذي ينتجه نظام التمثيل النسبي الحالي، وهذا كلّه سيكون عمليّاً خارج الإمكان في ظلّ انشطار البرازيل بين رماديّة لولا، وصلابة «البولسناريسمو». إنّها أمّة منقسمة، بغضّ النّظر عن شخص رئيسها.