أطلق الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أخيراً، برنامجاً خاصاً به سمّاه «قرن تركيا»، يتضمّن ما ينوي القيام به، قبل بلوغ بلاده عامَي 2053 و2071: الذكرى المئوية السادسة لفتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح عام 1453، وذكرى مرور ألف سنة على موقعة ملازكرد التي انتصر فيها السلاجقة على سلطان البيزنطيين عام 1071، على التوالي. ومن تحديده التاريخَين المذكورَين، يمكن استشفاف النزعتَين اللتَين تَحكُمان سلوك إردوغان: العثمانية والقومية. وإذ وعد الأتراك بإقامة «تركيا قويّة وعظيمة»، أتى إردوغان على ذكْر أكثر من 17 عنواناً، من «القرن التركي، قرن السلام، قرن الاستقرار، قرن العلم»، إلى «قرن المستقبل». ووضَع عناوين كبيرة أخرى من قبيل تأسيس «جمهورية ديموقراطية»، و«ديموقراطية تشاركية»، و«حريات إيجابية»، و«تركيا عادلة»، واعداً مواطنيه بلغة تصالحية استيعابية، بأن يكون «القرن التركي، قرن الوحدة لا تشتُّت الهوية، وقرن المحبّة لا الكراهية، والتكامل لا الاستقطاب».إزاء ذلك، رأى أحد أكثر الكتّاب التصاقاً بإردوغان، عبد القادر سيلفي، أن الرئيس التركي «يقترح سياسة جديدة، وعقداً اجتماعياً جديداً، وأخيراً دستوراً مدنيّاً جديداً»، مذكّراً بأن إردوغان هو الزعيم الذي شكّل سياسة تركيا في العشرين عاماً الماضية، واصفاً إيّاه بأنه «زعيم عالمي وماركة عالمية يدعو إلى التعالي على الفروقات والحساسيّات». على أن هناك الكثير من الملاحظات التي سُجّلت على العناوين العريضة المطروحة، ومدى مصداقية صاحبها في تحقيق ما عَجِز - عمداً أو خطأً - عن تحقيقه خلال العقدَين الفائتَين. وممّا لا شكّ فيه أن الزعيم التركي يَفترض بقاءه في السلطة لأعوام مديدة، فيما ستكون انتخابات الرئاسة المجدولة في حزيران المقبل، واحدة من «الحروب الكونية الكبرى» في تاريخ تركيا، والتي ستترتّب على نتائجها الكثير من التداعيات على مستوى الداخل كما الخارج.
في هذا الوقت، تتواصل حملات المعارضة على إردوغان ونهجه؛ إذ انتقد نجاتي أوزكان، في صحيفة «جمهورييات»، شعار «قرن تركيا»، لافتاً إلى أن «الخطط الخاصّة بعام 2023 لم تُنفّذ، فكيف ستكون عاقبة المئة عام المقبلة؟ وكيف يمكن تصديق إردوغان ووعوده؟ وعدٌ بحجم تجارة ستبلغ 500 مليار دولار، وتضخّم من رقم واحد - فيما وصل إلى ثلاثة أرقام -، واقتصاد ضمن العشرة الأوائل في العالم - وهو يصارع ليكون ضمن مجموعة العشرين -، ومتوسط دخل فردي لا يقلّ عن 25 ألف دولار، وناتج قومي بتريليونَي دولار، وخفض نسبة البطالة إلى 5%. أما النتيجة، فكانت انهياراً اقتصادياً شاملاً». وفي الإطار نفسه، وتحت عنوان «في الذكرى المئوية للجمهورية، تركيا والعالم إلى أين؟»، نظّم موقع «تي 24» لقاءً فكريّاً شارك فيه عدد كبير من المثّقفين والنُخب التركية، حيث جرت مناقشة مستقبل البلد والتحدّيات التي تواجهه. وفيه، رأى بكر آغيردير، مسؤول إحدى شركات الاستطلاع، «(أنّنا) لن ننتخب في عام 2023 رئيساً فحسب، بل سنقوم بعملية اختيار حضاري. تركيا تحتاج إلى أمل وإلى مشروع طموح... أمامنا ثلاث تركيات. شئنا أم أبينا، أردنا أم لم نُرِد: المحافظون والعلمانيون والأكراد، سواء سياسيّاً أو اجتماعيّاً أو اقتصاديّاً أو كهوية. وقد تبيّن لنا من التجربة أن تركيا لن تَعرف السعادة في حال كان المنتصر طرفاً واحداً، أو كان الناعق جهة واحدة. يجب أن نشكّل أهدافنا على أساس الحياة المشتركة والقيم المبدئية. وعلى أساس هذه الأهداف نتنظم ونتناقش وننتج المصالحات».
هناك الكثير من الملاحظات التي سُجّلت على العناوين العريضة التي طرحها إردوغان في «قرن تركيا»


وعلى المنوال ذاته، تحدّث عضو الاستخبارات التركية السابق، البروفسور دارون عجم أوغلو، في مداخلة عبر الفيديو، عن «أزمة ديموقراطية عميقة جدّاً» في تركيا، حاضّاً المعارضة على «إعطاء الأمل، وإلّا مَن غيرها سيفعل؟». وأضاف أن «أحداً لا يمكن أن يأتي من فوق ويعلن أنه سيحرّر الديموقراطية. الأنظمة العسكرية خَلقت بشكل سيّئ جدّاً استقطابات في تركيا... أنظمة الاستبداد في العالم تنتصر الآن في صندوقة الاقتراع. في تركيا أزمة ديموقراطية ودستور وعدم مساواة وحرية صحافة. الديموقراطية ليست ترفاً بل هي أكثر من شرط للنمو». وأشار عجم أوغلو إلى أن «الديموقراطيات في العالم، بما فيها الولايات المتحدة، تشهد تراجعاً، حيث تمّ تقليص السياسات الديموقراطية، وعادت النزعات القومية. القضاء في أميركا بات مسيّساً، وتمّ استقطاب الإعلام»، معتبراً أن «تراجع الديموقراطية في أميركا سيؤثّر سلباً على العالم أجمع». من جهته، لفت الباحث أوغور غورسيس إلى أنه «كلّما ابتعدت تركيا عن الديموقراطية وعن سيادة القانون، كلّما ساء الاقتصاد. لم يسبق لتركيا أن شهدت هذا التضّخم المرتفع في وقت قياسي، ولا هذه السرعة في انهيار الطبقة الوسطى وبلوغ الفقر». أما البروفسور علي يايجي فرأى أن «المجتمع التركي مليء بالتاريخ... ومع هذا القدر الكبير من التاريخ، لا يمكن فهم المستقبل. التاريخ يقدِّم مؤشرات، ولكنه لا يستطيع أن يقرأ المستقبل، ولا أن يُظهره. يجب ألّا يكون التاريخ بؤرة السياسة إلى هذا الحدّ. وإذا ضغطت التفاصيل التاريخية، يصير من الصعب تأسيس المستقبل. التاريخ يروي الماضي، لكن السياسة مرتبطة بالمستقبل». وتناولت البروفسورة دينيز سرت، بدورها، قضيّة الهجرة، معتبرةً أن «العولمة هي المكان الذي تُظهر فيه الهجرة عدم المساواة والتمييز. والهجرة ورقة في السياسات الداخلية والخارجية، وفي تركيا، هي أحد الموضوعات الانتخابات الأهمّ»، بينما انتقد السفير التركي السابق في واشنطن، نامق طان، السياسة الخارجية التركية، التي «تحوّلت إلى مادّة للسخرية»، ورأى أن «حرباً باردة جديدة قد بدأت مع حركات الشعبوية في العالم... الغزو الروسي لأوكرانيا يحتّم على تركيا أن تتّخذ قرارها. هل ستكون بلداً يقيّم جيداً الفرص المتاحة من هذه الحرب، أم ستبقى بلداً عادياً وهامشياً؟». وتحدّث البروفسور إيفرين بلطة، من جانبه، عن أن الأزمة في أوكرانيا أَقحمت تركيا في الصراع، وغيّرت - مع تغيير الحدود داخل أوروبا - أعراف الحرب، معتبراً أن التهديدات الجديدة تتمثّل في عسكرة أوروبا وتقوية التحالف عبر الأطلسي في مواجهة التهديد الروسي والتهديد المحتمل للصين. وفي الختام، استعرض حامل جائزة «نوبل» للآداب، أورخان باموق، احتمالات سيْر الانتخابات المقبلة: «غداً ماذا سيحدث؟ سيناريو التفاؤل أن يُرحّل الشعب السلطة الحالية. سيناريو التشاؤم ألّا تَقبل السلطة النتائج، ونشهد سياسات قذرة. لا أريد أن أتكهّن، ولكن يمكن أن أتوقّع سيناريو متشائم وألّا يَقبل حزب العدالة والتنمية النتائج لأعذار مختلفة، أو يَظهر في الخمس دقائق الأخيرة من الانتخابات مَن يتّهم مرشّح المعارضة الأقوى بالإرهاب، أو أن تتقارب الأرقام وتَحدث أشياء قذرة تُحدث الفوضى ويَدخل الطرفان في صدام. وربّما يحدث الأسوأ».