بدأ حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، للمرّة الأولى، مناوراته العملية في الطريق إلى انتخابات الرئاسة في حزيران من العام المقبل. وإذ لا تزال استطلاعات الرأي تعكِس إمكانية خسارة الرئيس الحالي، رجب طيب إردوغان، الانتخابات، في حال توحُّد المعارضة حول مرشّح واحد، بدأ حزب الرئيس يتراجع إزاء قضايا معيّنة لتعزيز فرصه في الاستحقاق المرتقب. فالجبهتان المتواجهتان، «تحالف الجمهور» من حزبَي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، و«تحالف الأمّة» الذي يَجمع ستّة أحزاب معارِضة تحت اسم «طاولة الستة»، تكادان تتعادلان في ترجيحات مراكز استطلاعات الرأي. لكن الحسابات الكبرى والدقيقة تؤكد بما لا يدعُ مجالاً للشكّ أن أصوات «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي والتي تناهز الـ 10%، ستَحسم فوز هذا المرشّح أو ذاك. وفي حال وقف الحزب على الحياد وترك الحريّة لناخبيه في اختيار المرشّح الذي يرونه مناسباً، يصبح التكهّن بنتيجة الانتخابات صعباً، وإنْ كان يصبّ نسبيّاً في مصلحة إردوغان الذي قد ينجح في كسْب بعض هذه الأصوات. على هذه الخلفية، أَظهر الرئيس التركي، أخيراً، استعدداً لتقديم كلّ أنواع التنازلات، واعتماد البراغماتية من أجل كسْب ودّ الصوت الكردي.وكان زعيم «حزب الشعب الجمهوري» العلماني، كمال كيليتشدار أوغلو، قد دعا، قبل أسابيع - أيضاً من أجل كسْب ودّ بعض الفئات الإسلامية -، إلى حماية حريّة ارتداء الحجاب، بقانون يُقرُّ في البرلمان. وجاءت هذه الخطوة مفاجئة للعلمانيين قبل الإسلاميين، لأن مِثلها يقلّل من مجال التفسير العلماني للحريات ويحشرها في الزاوية. لكن إردوغان وجد في «مزايدة» كيليتشدار أوغلو فرصة ثمينة للمزايدة على المزايدة، فاقترح الذهاب أبعد من ذلك، بإدخال مسألة حريّة الحجاب في الدستور نفسه، وطرْحها على استفتاء شعبي يجرى بالتزامن مع الانتخابات العامة. ما تقدَّم، أحرج كيليتشدار أوغلو كثيراً، كون اقتراح إردوغان أسقط من يده ورقة الحجاب. لكنه، مع هذا، نجح في صدّ هجمة الرئيس التركي، حين أكد أنه يقبل إدراج الحجاب في الدستور، بشرط أن يكون ذلك ضمن سلّة شاملة تنصّ، من بين بنود أخرى، على تعزيز الحريّات الأساسية، ومنها الاعتراف بالعلوية كمعتقد ديني، وهو ما لا يمكن إردوغان أن يقبل به، لتعود الكفّة تالياً إلى التعادل.
لكن الكفّة مالت أكثر لغير مصلحة إردوغان، عندما خرج الأخير بتصريح، اعتبرته الأوساط المعارِضة بمثابة هزيمة له، قال فيه إن «الحريات الأساسية لا يمكن أن تكون موضع استفتاء». ربّما يكون الرئيس التركي قد توجّس من نتيجة الاستفتاء في حال حصوله، لكن شغله يتركّز، على أيّ حال، على كيفية الفوز بمعركة الرئاسة، ما حدا به إلى دفع حزبه ليقوم بمبادرة مفاجئة، عبر تشكيل وفد جال على الأحزاب السياسية من أجل جمع الأصوات لتعديل الدستور في البرلمان، من أجل نَيْل اقتراح إدخال الحجاب في الدستور غالبيّة الثلثَين. وكانت المفاجأة الأخرى، أن وفد «العدالة والتنمية»، برئاسة وزير العدل بكر أوزداغ، زار لهذا الغرض أيضاً «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، طالباً دعمه. على أن نواب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» بالكاد يصل عددهم مجتمعَين إلى 334 نائباً، فيما المطلوب لتعديل الدستور 400 نائب من أصل 600، ويمكن مع نواب «الشعوب الديموقراطي» (56)، وبعض النواب المستقلّين أن يصلوا إلى الرقم المطلوب.
مالت الكفّة لغير مصلحة إردوغان عندما قال إن «الحريات الأساسية لا يمكن أن تكون موضع استفتاء»


لكن المسألة ليست هنا؛ فحزب «العدالة والتنمية» وإردوغان خصوصاً، لم يكفّا، منذ أربع سنوات، عن كيل الاتهامات لـ«الشعوب الديموقراطي»، مرّة بالتعاون مع «إرهابيي» «حزب العمّال الكردستاني»، ومرّة بأنه مجرّد واجهة للأخير. واستناداً إلى هذه التهم، نُزعت الحصانة النيابية عن العديد من نواب الحزب، ومنهم رئيسه، صلاح الدين ديميرطاش، وأُلقي بهم في السجون، حيث لا يزالون يمكثون. كما أن عدداً كبيراً من رؤساء البلديات الأكراد، عُزلوا من مناصبهم وعيّنت الحكومة بدلاء لهم. أمّا السؤال المطروح راهناً، فهو كيف يمكن «العدالة والتنمية» - بمعزل عن السبب - أن يجتمع الآن إلى قادة حزب يتّهمه بأنه «إرهابي»؟ تبدو اللعبة مكشوفة أمام الرأي العام التركي. وما زاد من المفاجأة أن شريك إردوغان، دولت باهتشلي، زعيم حزب «الحركة القومية»، الذي كان يُتوقّع أن يندّد باجتماع وفد «العدالة والتنمية» من الحزب الكردي، علّق بالقول: «لا قلق لدينا من اللقاء (العدالة والتنمية) مع حزب الشعوب الديموقراطي»، علماً أنه هو نفسه وصف، في وقت سابق، لقاء نواب «الشعب الجمهوري» مع نظرائهم في «الشعوب الديموقراطي»، كما لو أنه «لقاء مع حزب العمّال الكردستاني».
لا شكّ في أن إعلان إردوغان أنه لا حاجة إلى استفتاء حول الحريات الأساسية، جاء بعد رفض الحزب الكردي الاستفتاء. لكن الزعيم التركي شعر بخطر طلب دعم «الشعوب الديموقراطي» على شراكته مع «الحركة القومية»، فكان القرار بالتراجع عن الاستفتاء، وخصوصاً أن باهتشلي انتقد سابقاً إردوغان على تهجّمه على أتاتورك وإصلاحاته، عبر رئيس كتلة «العدالة والتنمية»، ماهر أونال، الذي رأى أن إصلاحاته «قَتَلَت الفكر التركي»، فيما يقول رئيس «حزب الديموقراطية والتقدّم»، علي باباجان، إنه «لا يمكن لأحدهما (إردوغان وباهتشلي) أن يحكم من دون الآخر». في الوقت ذاته، يرى أنّ مجرّد التواصل بين «العدالة والتنمية» والحزب الكردي، بداية للمناورة الكبرى التي يأمل إردوغان في نهاية المطاف أن تكسبه الـ 10% التي يحتاج إليها للفوز. وما تصريح باهتشلي أنه لا يجد غضاضة في اللقاء، سوى تعبير عن بداية تحوّل في خطاب الرَّجلين، تجاه المسألة الكردية. وما يمكن استنتاجه الآن، أن دعاوى إغلاق «حزب الشعوب الديموقراطي» ستسقط من الآن وحتى الانتخابات المقبلة، ذلك أن «العدالة والتنمية» فقد مبرّر رفْع الدعاوى ضدّ الحزب الكردي بعدما التقى نواب إردوغان نوابه.