طهران | مضى شهران على انطلاق الاحتجاجات في إيران على خلفية وفاة الشابة مهسا أميني، في أحد مقارّ الشرطة. وُجِّهت التظاهرات بدايةً ضدّ «دوريات الإرشاد» والحجاب الإجباري، لكنها أخذت شيئاً فشيئاً تنحو نحو الراديكاليّة، مستهدِفةً عموم النظام القائم. وهي شهدت، خلال هذَين الشهرَين، تقلُّبات كثيرة؛ فعلى رغم انحسارها مقارنة بالأيّام الأولى لبدئها، غير أن المناخ العام في إيران يشوبه التوتّر، فيما يبدو كأنّ ناراً تحت الرماد قد تستعر في أيّ لحظة. الحكومة، من جهتها، وصمت الاحتجاجات بـ«أعمال الشغب»، وأنحت باللائمة على «الدول الأجنبية»، متّهمةً إيّاها بالوقوف وراءها. لكنّ الكثير من المراقبين وعلماء الاجتماع وحتى بعض السياسيين في إيران، يقرّون، في الوقت ذاته، بأن للتظاهرات أرضيّتها وجذورها العميقة التي تجب معالجتها بشكل جذري، بما يشمل إصلاح بعض الأُطر والهياكل والسياسات. وتدور، اليوم، نقاشات جادّة بين المفكرين وأصحاب الرأي وعلماء الاجتماع حول الأسباب والدوافع الأساسية للأحداث الأخيرة.
تمرُّد الجيل الجديد
ثمّة في إيران مَن يرى أن أهمّ خلفيات الاحتجاجات، الفجوة بين الأجيال. وتأسيساً على هذه الرؤية، تتشكّل النواة الرئيسة لها، من محتجّين تقلّ أعمار معظمهم عن 22 عاماً. ويقف ذلك الجيل على مسافة كبيرة من الأجيال السابقة والنظام السياسي من حيث منظومة القيم والثقافة. وفي هذا الإطار، تقول مجموعة الدراسات الإيرانية في مجلّة «راصد الأمن الوطني» البحثيّة الاستراتيجية إن أهمّ خصائص الموجة الحالية تتمثّل في «ظهور جيلٍ أفراده غرباء بالكامل على نموذج الحوكمة القائم». ووفق الدراسة، «يشهد المجتمع الإيراني، في الظرف الحالي، ظهور وتفاعل جزء من الجيل الجديد ممَّن أبصر النور في النصف الثاني من عقد التسعينيات والعقد الأوّل من الألفيّة الثانية، والذي لا يملك التجربة المشتركة للأجيال السابقة التي عاشت تطوّرات الثورة الإسلامية والدفاع المقدّس (الحرب الإيرانية - العراقية). إن تفاعل هذا الجيل تزامَن مع اتّساع نطاق الاتصالات الإلكترونية في إطار العولمة، بينما يتغذّى العنصر النسوي في هذه الاضطرابات على القوّة الكامنة في اختلاف الأجيال».
وبحسب الدراسة، فإن الجيل المُشار إليه «حزين ويَشعر بأنه يتعرّض للضغط والتمييز الناجمَين عن البيروقراطية العقيمة، ولا يؤمن في الوقت ذاته إلّا قليلاً بالأيديولوجيات السياسية السائدة. وهو تشكَّل خلال فترة قصيرة وعابرة على مدى السنوات الـ 15 إلى الـ 20 الأخيرة، ويشهد أو يمتلك تجربة ضئيلة من المعنويات والوجدان العام والعدالة الاجتماعية أو حتى الاستقلال الوطني، والتي كانت، خلال السنوات الأولى من الجمهورية الإسلامية، جزءاً من الثقافة العامة. إن الفكرة التي يحملها هذا الجيل عن نظام الحكم، هي أنه يُلغي الحفلات الموسيقية، ويضع تعليمات قسريّة ويَحظر الفعاليات الثقافية والترفيهية. إنهم يعتبرون الحكومة عقيمة وغير فاعلة وعاجزة عن إدارة البلاد، وقد تعزَّزت هذه الرؤية لديهم على خلفية الأخبار التي تتحدّث يوميّاً عن شحّ إمدادات المياه وانهيار المناخ وباقي التهديدات الاجتماعية، بما فيها الإدمان وأطفال الشوارع وغيرها».
غياب قيادة محدّدة في الاحتجاجات الأخيرة، وتطرُّفها، وانتقالها إلى العنف، حال دون انضمام أطياف واسعة من الناس إليها


على صعيد متّصل، يوافق عالم الاجتماع الإيراني، أمان الله قرائي مقدم، على أنّ الاحتجاجات الأخيرة تَضرب بجذورها في الفجوة القائمة بين الأجيال، لافتاً إلى أن «الجيل الجديد غير عارف بالثقافة الوطنية. ولتفهمه، يجب تنقية وترشيح أفكار الأجيال السابقة. وقد أعلنتُ بوصفي عالم اجتماع، قبل عقد من الزمن، بخصوص هذا الجيل، أن أجراس الخطر قد دُقّت بالنسبة إلينا». ووفق قرائي مقدم، فإن «هذا الجيل هو نتاج تربيتنا وتعليمنا. فهو ليس إصلاحيَّ التوجّه ويحبّ أفكاره ولا يؤمن بمبادئ تمكّنه من فهم الأصوليين. إن الجيل الحالي يصرخ بأنه لا يصغي لآراء المتقدّمين، ويرى أنه سيصنع المستقبل بيده ويؤمن بذاته بقوّة. إن شباب اليوم يعرف أن الإصلاحي المحافظ هو الأصولي ذاته، ويقف على مسافة بعيدة من الأفكار الأصولية. إنهم مستقلّون ذاتيّاً ومؤمنون بذواتهم ومحبّون لأنفسهم».

«تمرُّد المنبوذين»
من جهة أخرى، يذهب بعض علماء الاجتماع في إيران إلى أن الاحتجاجات الأخيرة متعدّدة الأوجه، وناتجة من تكدّس التذمّر والاستياء على مدى السنوات الأخيرة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويُطلق عماد أفروغ، عالم الاجتماع وأستاذ جامعة إعداد المدرسين في طهران، على الموجة الأحدث تسمية «تمرُّد المنبوذين»، إذ يرى أن السياسات العامّة في الميادين الاقتصادية والسياسية والثقافية أدّت إلى نبْذ أطياف واسعة من المجتمع، وجدت الفرصة لتتمرّد الآن. ويقول إن «مجتمعنا هو مجتمع متعدّد الأطياف وتعدّدي، وهذه التعدديّة لا يجب تجاهلها، لكن إنْ لم يَسمح المستوى السياسي بذلك، أو إنْ لم يأخذ في الاعتبار التعدديّة الثقافية، فإن ثقافة الإلغاء ستتحقَّق على أرض الواقع». ويضيف «(أنّنا) نشهد عدم التكافؤ الاقتصادي، وسياساتنا الاقتصادية هي شبه رأسمالية وليبرالية جديدة، ولم نتابع سياسات مقبولة لتحقيق العدالة. وفي المجال السياسي، يتمّ اعتماد سياسة القطب الأحادي الزائف والمصطنع من قِبَل المجموعات السياسية وبالتحديد في المجتمع الإيراني المتعدّد الأطياف... الاستقطاب الزائف والملفّق شكّل أساس الطرد الثُلاثي الآنف الذكر». ولهذا، فإن «السياسة والسلطة لا تسمحان بعودة التعدديّة إلى المجتمع». ويشير أفروغ الذي كان رئيس اللجنة الثقافية في البرلمان الإيراني في دورته السابعة، إلى استطلاع للرأي أُجري قبل ثلاث سنوات، قائلاً إن «26% فقط من المجتمع، يحملون توجّهات سياسية تجاه الجناحَين الإصلاحي والأصولي»، وإن «74% لا يميلون إلى أيّ من هذين الجناحَين. هذا الإحصاء لا يُظهر الطرد السياسي فحسب، بل هو مؤشّر إلى الطرد الاقتصادي والثقافي أيضاً».
من جهته، يرى أمير دبيري مهر، الباحث في العلوم السياسية في إيران، أن عوامل عديدة، بما فيها «الحذف التدريجي للنُخبة وأصحاب الخبرة والصالحين والمخلصين من عملية صُنع القرار واتّخاذ القرار»، و«سياسة توحيد الحوكمة بدلاً من التنافس»، أسهمت في تعزيز الاستياء والتذمّر لدى الشعب الإيراني. ويقول: «عندما تستمرّ المسارات والعمليات المعيوبة ولا تتمّ معالجتها وتغيب العزيمة والجديّة لاحتوائها، فإن أرضيات التذمّر العام ستتشكّل... وعندما يرى الناس أنه حين تتوجّه إرادة الحكّام نحو أمر ما، فإنه يتمّ تكريس واستخدام جميع الإمكانات والموارد لتحقيقه، لكن لا يتمّ اتّخاذ خطوة مؤثّرة لمعالجة المشاكل الروتينية للناس. هذا التصوّر يُنشئ لديهم قناعة بأنهم لا يحظون بالأهميّة، وبأن قضاياهم لا تشكّل أولوية للبلاد ويستاؤون بالتالي. إن استمرار هذا التذمّر يتحوّل إلى غضب اجتماعي، والتذمّر يضرب بجذوره في السياسات الخاطئة وغير الفاعلة للاستجابة لمطالب الشعب».

المستقبل: ضرورة الإصلاحات؟
على رغم تفشّي التذمّر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في إيران، بيدَ أن المراقبين يستبعدون وقوع ثورة وتغيير الهيكلية السياسية في الحقبة الحالية. فغياب قيادة محدّدة في الاحتجاجات الأخيرة، وتطرُّفها، وانتقالها إلى ممارسة العنف، حال دون انضمام أطياف واسعة من الناس - وإن كانوا متذمّرين - إلى صفوفها، وهو ما مَنع تخطّيها حدوداً معيّنة. ومع ذلك، يرى المفكّرون وعلماء الاجتماع في إيران، شأنهم شأن العديد من النشطاء السياسيين، أن النظام السياسي يجب أن يقوم بإصلاحات بسرعة لخفض مستوى التذمّر. وقدَّم خليل الله سردارنيا، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيراز في دراسة نُشرت حديثاً، آليات تُسهم في الخروج من هذه المحنة، على رأسها إنجاز الإصلاحات الأساسية والهيكلية، ولا سيما في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وإعادة بناء الثقة مع الناس عن طريق العمل مجدّداً لنَيْل الرضى الاجتماعي، ومراجعة الخطط والمشاريع الاقتصادية لمصلحة الطبقات الدنيا في المجتمع لجهة تحسين وضعها المعيشي، والاعتراف رسميّاً بالحركات الاحتجاجية والانفتاح السياسي وإيجاد آلية للتعبير عن الاحتجاج.