الغرب الجماعي المنحدِر، يبحث عن انتصارات بأيّ ثمن، فعليةً كانت أو وهمية. وكما أن الإنجازات العسكرية الأوكرانية في مقابل روسيا، «بفضْل التكنولوجيا الغربية»، في أواخر الصيف، صُوِّرت على أنها مقدّمة لهزيمة كاملة للأخيرة، وانسحاب مذلّ يفضي إلى انهيار «منظومة بوتين»، فإن الاحتجاجات في إيران والصين تُقدَّم على أنها بداية ثورة حقيقية ستطيح «الأنظمة الشمولية» في البلدَين. ليس من قَبيل الصدفة أن يدعو «زعيم» المعسكر الغربي، جو بايدن، إلى قمّة جديدة حول الديموقراطية في 29 و30 آذار 2023، بعد تلك التي عَقدها في أواخر 2021. اللحظة الراهنة، مِن منظوره ومنظور حلفائه الصغار الأوروبيين، هي بمثابة «نافذة فُرص تاريخية» لا ينبغي تفويتها. فـ«التهديد الاستراتيجي» الأكبر للريادة الأميركية عالمياً، أي الصين، يواجه حركة اضطرابات داخلية، امتدّت لتشمل عدّة مدن في أنحاء البلاد، ورُفعت خلالها، في شنغهاي تحديداً، دعوات إلى إسقاط الرئيس الصيني والحزب الشيوعي. بكلام آخر، وعلى الرغم من أن وقوع احتجاجات في الصين ليس بالأمر الجديد، إذ إن هذا البلد يشهد سنوياً آلاف التحرّكات المطلبية من إضرابات وتظاهرات، إلّا أن الإصرار على «الطابع السياسي» للموجة الأخيرة، يندرج في إطار سردية «تَقدّم الديموقراطية وتقهقر أعدائها»، المعتمَدة من قِبل أبواق المعسكر الغربي من مؤسّسات مجمعه الإعلامي - العسكري. لا يهمّ إنْ كانت هذه السردية تتناقض مع ما ورد في التقرير الأخير لـ«المعهد الدولي للديموقراطية والمساعدة الانتخابية» السويدي المعروف، من أن نصف الديموقراطيات في العالم تشهد تراجعاً في أنظمتها السياسية. دور المجمع المذكور مركزي في الحرب الهجينة التي يشنّها المعسكر الغربي على خصومه؛ فهو الذي يتولّى الترويج للسردية التي تُنتجها مراكز الدراسات والأكاديميا الغربية حول التطوّرات، والمطابِقة لأجندة قيادته الاستراتيجية، ويقدّم منبراً لـ«المعارضة الديموقراطية» في الدول المستهدَفة، يُستخدَم للشحن والتعبئة ليلَ نهارَ. سبق للزعيم السوفياتي فلاديمير لينين، في بدايات القرن العشرين، أن شَبّه صحيفة الحزب الثوري، بمنفاخ الحدّاد الذي يؤجّج نيران الصراع الطبقي. وظيفة المجمّع الإعلامي - العسكري وأدواته، ليست مجرّد «النفخ» على النيران، بل إشعالها والإشراف على تحديد وُجهة امتدادها. هو يقوم، في ظلّ الصعوبة الشديدة في تشكيل تنظيمات معارِضة في الصين أو في إيران، بوظيفة التنظيم أو الحزب، أي تقديم المعنى السياسي للأحداث، ومن ثمّ تحديد المهام العملية والميدانية، إضافة إلى وظيفته التعبوية - الإعلامية. هو الأداة الأساسية، إلى جانب شبكات من الناشطين المحلّيين، وقطاعات من الجاليات المقيمة في الخارج، أو «المجتمع المدني المعولم» المؤطَّر والمنظَّم من قِبَل منظّمات الارتزاق غير الحكومي، في سياسة زعزعة استقرار الصين بذريعة تصدير الديموقراطية، في سياق احتدام المجابهة الاستراتيجية معها.
هل تثير سياسة «صفر كوفيد» المتّبَعة من قِبل السلطات الصينية، وما ينجم عنها من مصاعب حياتية بالنسبة إلى المواطنين، امتعاضاً واعتراضاً من قِبل قطاعات بينهم؟ بكلّ تأكيد. هل هناك بيئات معارِضة، أو حتى تنظيمات سرّية معارِضة للنظام الاشتراكي في الصين؟ لا شكّ في ذلك. هل هناك تيّارات متباينة أو حتى متعارضة أحياناً في داخل الحزب الشيوعي الحاكم؟ طبعاً. هل يعني كلّ ما تَقدّم، كما تفترض السردية الغربية السائدة، أنّنا أمام «عودة التاريخ للانطلاق من حيث توقَّف بعد مذبحة تيان آن مين في عام 1989»؟ الجواب هو قطعاً بالنفي. فالسواد الأعظم من الصينيين يعرف مَن الذي نهض بقارة مقسَّمة، مصنَّفة على أنها «شبه مستعمَرة»، ويسودها نظام «شبه إقطاعي، شبه رأسمالي»، لتصبح بعد بضعة عقود، قوّة تُنافس على الريادة العالمية اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً. أجهزة الدعاية الإيديولوجية الغربية نفسها كانت تشير إلى نموّ الشعور القومي في الصين، وترى أن شعبية شي جين بينغ هي إحدى نتائج هذا الشعور، لكنها اليوم لا تتردّد في قول العكس، والزعم بأن الصينيين يريدون الخلاص ليس من رئيسهم فقط، بل من نظامهم برمّته.
هي، في تعاطيها مع الاحتجاجات، تتعامى عن مجموعة من الحقائق المتّصلة أوّلاً بالحجم الفعلي للمشاركة الشعبية فيها، وثانياً بالدوافع المختلفة للمشاركين. نزول عشرات وربّما مئات المتظاهرين إلى شوارع عدد من المدن الكبرى والصغرى، وانضمام العشرات من طلاب الجامعات إلى الحركة الاحتجاجية، في بلد يضمّ 1.4 مليار إنسان، لا يعني أن النظام السياسي، الذي يتمتّع بقاعدة مُوالية ضخمة، مهدَّد! أمّا بالنسبة إلى المشاركين في الاحتجاجات، فإن وجود نواة تنظيمية نشيطة يمثّلها أساساً المجتمع المدني المعولَم، المعادي فعلاً للنظام، والذي يعبّر عن ذلك في طروحاته، لا يتنافى مع انضمام كتل وأوساط معترِضة على سياسة «صفر كوفيد»، من دون أن تترتّب على هذا الانضمام موافقة على فكرة تغيير النظام. من اللافت أن شعار إسقاط الرئيس والنظام رُفع في شنغهاي، عاصمة المال والأعمال، وحيث تتواجد بعض التيّارات الليبرالية، وليس في بكين، حيث خَتم المتظاهرون تحرّكهم بغناء النشيد الأممي.
الاحتجاجات ذات طبيعة مركَّبة، وهي ستتراجع وتتفكّك عند اتّضاح الأهداف الفعلية للنواة المنظِّمة. الغرب يريد انتصاراً ولو رمزياً. وقوع احتجاجات في الصين متّصلة بكيفية تصدّيها لجائحة «كوفيد 19»، بعد أن كانت هذه الإدارة «قصّة نجاح» مقارنة بما كشفته الإدارة الأميركية والغربية للأزمة من «داروينية اجتماعية»، هو بذاته انتصار رمزي وإعلامي للغرب. والأمر نفسه ينسحب على إدراج الاحتجاجات، في الخطاب السائد حولها، في إطار «الثورة الديموقراطية». لكنّ القدرة على زعزعة استقرار النظام الصيني هي شأن آخر؛ إذ لن تمنع الانتصارات الغربية الرمزية الصين من المُضيّ في تطوير قدراتها التكنولوجية والعلمية والاقتصادية والعسكرية، وفي توسيع دائرة شراكاتها ونفوذها على المستويَين الإقليمي والعالمي، والاستمرار من خلال ذلك في تعديل موازين القوى الدولية الإجمالية لغير مصلحة مَن كان في زمنٍ مضى سيّداً للعالم.