مناورات جوّية عسكرية أميركية - إسرائيلية تحاكي استهدافاً لمواقع نووية إيرانية؛ تأكيد الرئيسَين الأميركي والفرنسي خلال اجتماعهما الأخير تصميمهما على «ضمان عدم تمكُّن إيران أبداً من امتلاك أو تطوير سلاح نووي»؛ حديث متكرّر لروبرت مالي، المبعوث الأميركي الخاصّ لإيران، عن استعداد جو بايدن لـ«خيار عسكري لمنع إيران من الحصول على سلاح في حال فشل العقوبات والديبلوماسية في الحؤول دون ذلك»... جميعها تطوُّرات تؤشّر إلى اعتماد التحالف الغربي - الإسرائيلي، مجدّداً، سياسة التوتير العلني مع طهران. تأتي هذه المستجدّات بعد أكثر من شهرَين من تصعيد التحالف المذكور حربه الهجينة على الجمهورية الإسلامية، خاصة على الجبهة الإعلامية - السياسية، بذريعة مساندة «المتظاهرين المطالِبين بالديموقراطية». تندرج تلك الحرب في إطار الحروب بالوكالة، الحامية أو الهجينة، التي تقودها واشنطن في الآونة الأخيرة، من أوكرانيا إلى الصين، مروراً بإيران. لكن الكلام الواضح عن وجود خيار عسكري أميركي ضدّ برنامج طهران النووي، يعني ببساطة التورّط في نزاع مباشر معها يرجَّح أن يكون مديداً. فإذا كان الهدف هو تدمير هذا البرنامج، لا القيام بضربة موضعية محدودة لن تؤثّر فعلاً على نموّ القدرات النووية الإيرانية، يصبح المطروح، في أضعف تقدير، شنّ حرب جوّية واسعة النطاق تستهدف المنشآت النووية ومنظومات الدفاع الجوّي ومنصّات الصواريخ في إيران. لا تستطيع الولايات المتحدة «توكيل» إسرائيل وحدها بمِثل هذه المهمّة؛ فالقفزة النوعية التي حقّقتها إيران في ميدان الصواريخ والمسيّرات، والتي حدت بروسيا إلى استيراد كمّيات منها لاستخدامها في أوكرانيا، تُثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أن الكيان الصهيوني سيدفع ثمناً لا يقدر على احتماله في حال إقدامه على هكذا مغامرة. هو قد يُكلَّف، في إطار سيناريو أميركي متدحرج، بالقيام بالضربة الأولى، ليمهِّد بعد الردّ الإيراني لدخول الولايات المتحدة في المعركة. لكنّنا، على أيّ حال، لن نكون أمام سيناريو حرب بالوكالة، شبيهة بتلك التي تديرها واشنطن حالياً، بل المطروح هو دخول الأخيرة في صراع كبير وممتدّ زمنياً مرّة أخرى. ما زالت مشاهد الانسحاب الأميركي المذلّ من أفغانستان حاضرة في الأذهان، وتحديداً أذهان الأميركيين. هل سيُوافق هؤلاء على الذهاب إلى حرب ستكون قطعاً أشدّ ضراوة من سابقاتها؟ هل ستستطيع إدارة بايدن تسويق مِثل هذا القرار في أوساط رأيها العام وفي أوساط حلفائها الأوروبيين الذين يحتاجون إلى مصادر بديلة من الغاز الروسي، وقسمٌ منها يقع في منطقتنا؟ هل ستنجح واشنطن في الحدّ من تداعيات مِثل هذه الحرب على أسعار الطاقة؟ ماذا سيحصل للشريك الإسرائيلي، ولأيّ شريك آخر في الإقليم، في حال انخراطهم فيها؟ هل تغيّرت موازين القوى الإجمالية، الدولية والإقليمية، التي منعت من اتّباع ذلك السيناريو أيّام إدارة دونالد ترامب مثلاً، إلى درجة تَجعله خياراً واقعياً اليوم؟ أيّ نقاش جدّي لـ«الخيار العسكري» الأميركي ضدّ إيران، ينبغي أن يأخذ جميع الأسئلة المتقدّمة في الاعتبار.
التلويح باستخدام القوّة وسيلة من وسائل «الضغوط القصوى»، لكن اللجوء إليها أمر مختلف


عندما أشار مالي إلى وجود خيار عسكري أميركي ضدّ إيران، هو لم يكن يعبّر عن رأي شخصي. فالمبعوث الذي فُسّر اختياره من قِبَل إدارة جو بايدن على أنه رسالة حُسن نوايا تجاه طهران، لعِب دوراً هامّاً في المفاوضات التي أدّت إلى توقيع الاتفاق النووي عام 2015، وهو على قناعة بضرورة عودة الولايات المتحدة إلى الالتزام به. بعض المقرَّبين منه يلفتون إلى شعوره بالمرارة الشديدة تجاه المسؤولين الإيرانيين الذين رفضوا «عروضه السخيّة» للعودة إلى الالتزام بموجبات «خطّة العمل المشتركة الشاملة»، والتي لم تتضمّن أيّاً من مطالبهم الخاصة بوجود ضمانات بعدم خروج أيّ إدارة أميركية جديدة منه، أو بوقْف تحقيقات «الوكالة الدولية للطاقة الذرّية» حول آثار اليورانيوم في بعض المنشآت الإيرانية، والمستندِة إلى معلومات استخبارية إسرائيلية. مشاعر مالي ليست الموضوع؛ هو أدلى بهذا التصريح إلى «فورين بوليسي»، لتوجيه رسالة تحذيرية إلى إيران مفادها أن «الحمائم» في الإدارة انحازوا إلى مواقف «صقورها»، وأن على طهران أن تأخذ التهديدات الأميركية على محمل الجدّ.
التلويح باستخدام القوّة وسيلة من وسائل «الضغوط القصوى»، لكن اللجوء إليها أمر مختلف. لم يتجرّأ ترامب على فعل ذلك، لأن الجيش الأميركي أوّلاً حذر من التداعيات المترتّبة عليه. إذا تعرّضت إيران لعدوان يهدف إلى الإجهاز على برنامجها النووي، هي ستردّ بعنف، وستستهدف القواعد والمصالح الأميركية في المنطقة، وجميع الأطراف المشاركة في العدوان. ستضطرّ الولايات المتحدة، عندها، لأن تخوض مواجهة طويلة ومُكلِفة مع قوّة إقليمية لم تصطدم بمِثلها في الماضي. جميع الحروب الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية، خيضت ضدّ دول أو حركات شعبية لا تمتلك قدرة عسكرية ونفوذاً إقليمياً شبيهَين بما لدى طهران. أيّ حرب مع الأخيرة ستكون طويلة وغير محصورة جغرافياً، فيما الرأي العام الأميركي المنقسِم حول العديد من القضايا الأساسية في الداخل، مجمِع في غالبيته على معارضة التورّط في حرب كبرى جديدة في الشرق الأوسط. لا ضير في قتال الروس في أوكرانيا حتى آخر مُواطن من هذا البلد، أو في زعزعة استقرار إيران والصين من خلال استغلال تناقضاتهما الداخلية، أمّا إرسال الأميركيين للموت في مسارح عمليات بعيدة، فهو أمر مرفوض من سوادهم الأعظم. لا حاجة للتأكيد، كذلك، أن اندلاع هكذا نزاع سيهدّد استمرار تدفّق الطاقة، ليس من الخليج وحده، نحو الأسواق الأوروبية، وأن مفاعيله ستؤدّي إلى ارتفاع صاروخي في أسعارها، مع ما ينجم عنه من نتائج كارثية على اقتصاديات الأوروبيين وغيرهم من البلدان المستورِدة لها. أيضاً، إذا كان المطروح هو تدمير البرنامج النووي الإيراني، فإن سيناريو الدمار الشامل هو الأكثر ترجيحاً؛ لن تستطيع إسرائيل ولا غيرها مِمّن سيتجرّؤون على المشاركة في العدوان، حماية أنفسهم من «شتاء» الصواريخ والمسيّرات، علماً أن القدرة الرادعة التي تمتلكها إيران لم تَضعف نتيجة لبعض التظاهرات وأعمال التخريب والإرهاب. إضافة إلى كلّ ما تَقدّم، فإن الاندفاع نحو الحرب مع إيران، في سياق احتدام الحرب الغربية ضدّ روسيا في أوكرانيا، والتصعيد المستمرّ ضدّ الصين، سيعمّقان من التعاون بين هذه الدول لصدّ الهجوم الأميركي الشامل.
موازين القوى والقدرة الرادعة لإيران، هي التي أبعدت حتى الآن شبح عدوان مباشر وكبير ضدّها. صحيح أن الإمبراطوريات المنحدرة كثيراً ما تصاب بالجنون، لكنه في أغلب الأحيان، وكما أظهرت التجارب التاريخية السابقة مع بريطانيا وفرنسا مثلاً، غالباً ما يعود بالوبال عليها.