ليست من باب المصادفة، العلاقة الخاصة جدّاً بين الأحزاب الكردية في العراق، وتلك التي تنشط ضدّ إيران انطلاقاً من الشمال العراقي، وأيضاً بينها وبين إسرائيل. هذه الأخيرة عُمرها من عُمر الكيان، إن لم تكن سابقة عليه، وهي لم تنشأ نتيجة متغيّرات آنية ولتحقيق مصالح موضعية، بل هي استمرّت ونمت على مدار سنوات طويلة، إلى أن اتّخذت حالياً أشكالاً جديدة، علنية ومباشرة. ولم تقتصر العلاقة على محاولة الأحزاب الكردية الاستفادة من إسرائيل في إقامة «دولتها»، بل إن الأولى ارتضت أن تكون جزءاً من أدوات العدوان على شعوب المنطقة، ووضعت نفسها في حضن دولة الاحتلال رأساً، من دون الحاجة إلى الوساطة الأميركية، الأمر الذي جعلها، بشكل أو بآخر، في خدمة المصالح الإسرائيلية الاستراتيجية في الإقليم. منذ ستينيات القرن الماضي وبدايات سبعينياته، لعبت الأحزاب الكردية دوراً معتدّاً به إلى جانب الشاه المخلوع في إيران في المواجهة مع النظام العراقي - والتي انتهت لاحقاً باتفاقية الجزائر عام 1975 -، وساعدت الأوّل في الاستحصال على منافع سياسية وجيوسياسية، ما كان ليحصل عليها كما هي لولا تدخّل الأحزاب الكردية لمصلحته. كذلك الحال مع إسرائيل، التي سارعت إلى تطوير علاقاتها مع الأحزاب الكردية المطالِبة بالانفصال، والتي لم تنكرها إسرائيل يوماً؛ إذ إن الصور التي جمعت المسؤولين الإسرائيليين، ببزّاتهم العسكرية والمدنية، بقياديّين من الأحزاب الكردية في العراق، وعلى رأسهم مسعود البرزاني، تملأ وسائل الإعلام العبرية، وتنطق بوضوح بالدعم الذي تلقّته تلك الأحزاب تدريباً وتسليحاً وتوجيهاً، شأنها شأن الاتفاقات السياسية والاقتصادية والتجارية، من تحت الطاولة ومن فوقها.
اندرجت هذه الاستراتيجية ضمن مساعي إسرائيل، منذ أيامها الأولى، لإقامة علاقات مع دول وأقلّيات في المنطقة، ضمن الدائرة الأبعد نسبياً عن حدودها، في ما سُمّي حينها «استراتيجية الأطراف»، التي اكتسبت أهمّية كبيرة في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي. كان الهدف من ذلك إحاطة «الطوق العربي» بطوق آخر يُساوق مصالح دولة الاحتلال في مواجهة الأطراف المعادية لها. من هنا، اندفعت تل أبيب إلى نسج تحالفات مع إيران الشاهنشاهية، وتركيا العسكرية، وإثيوبيا، وأيضاً الأحزاب المسيطِرة في إقليم كردستان العراق، وصولاً إلى السودان الذي لا يَخفى دورها أي تل أبيب في انفصال جنوبه عن شماله. إلّا أنه بعد حرب عام 1973، وسقوط نظام الشاه، ومن ثمّ توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» مع مصر، فقدت «استراتيجية الأطراف» مركزيّتها على طاولة التخطيط والقرار في تل أبيب، وإنْ عادت إلى الظهور مع صعود نجم إيران الإسلامية، التي استطاعت تطويق إسرائيل من جديد عبر تهديدات مباشرة وغير مباشرة في محيطها، انتهاءً إلى الداخل الفلسطيني نفسه.
إضافة إلى «استراتيجية الأطراف»، عمدت إسرائيل، منذ نشأتها، إلى استغلال التناقضات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، فنسجت تحالفات على أسس طائفية وعرقية، كانت للأحزاب الكردية مكانة مميّزة فيها، ربطاً بوجودها داخل هذه المجتمعات وفي ما بينها. وإذا كان من شأن جغرافية مناطق سيطرة تلك الأحزاب، أن ساعدت في تشكيل طوق حول الحزام المعادي الذي كان يحيط بإسرائيل في السابق، فإن الاستثمار فيها الآن إنّما يمثّل نوعاً من نقل «الحدود الإسرائيلية» إلى تخوم إيران، العدو الأول الذي يواجه الكيان في هذه المرحلة، بعد تراكض الأنظمة العربية إلى التطبيع معه.
وضعت الأحزاب الكردية نفسها في حضن دولة الاحتلال رأساً، من دون الحاجة إلى الوساطة الأميركية


في السياقات الخاصة الأقرب زمانياً، يمكن البدء بتفرّد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عام 2017، بالاعتراف بانفصال كردستان العراق إثر «استفتاء الاستقلال»، ومحاولة إيجاد مشروعية ومقبولية له حول العالم، بل إن نتنياهو أكد آنذاك أن «الكيان الكردي» المنفصل هو ركيزة من ركائز استراتيجيته لدفع مصالح إسرائيل قُدُماً في المنطقة والعالم، وأن هذا الكيان هو مصلحة للغرب أيضاً. وأوضح نتنياهو، لأعضاء كونغرس أميركيين وفدوا إلى تل أبيب (33 عضواً) حينها، أن «السبب وراء تأييد استقلال الكرد، أنهم إضافة إلى كونهم حلفاء، هم موجودون في منطقة بين العراق وتركيا وسوريا وإيران، ما يعدّ ذخراً استراتيجياً لإسرائيل».
حالياً، تبدو إسرائيل أكثر حاجة إلى هذا النوع من الأوراق الإقليمية في مواجهة أعدائها، لأسباب عدّة يمكن إجمالها بالآتي:
- فشلت إسرائيل في الرهان على إمكان إخضاع إيران عبر الراعي الأميركي، سواءً بإسقاط النظام أو تطويعه أو ترحيل التهديدات التي يمثّلها إلى عقود مقبلة، والذي يمثّل الغرض الرئيس من الاتفاقات النووية.
- أيضاً، أخفقت إسرائيل، إلى جانب الحليف الأميركي، في منع إيران من تعظيم قدراتها العسكرية التقليدية، التي بلغت حدوداً لم تكن متصوَّرة في الماضي، وخصوصاً في ما يتعلّق بالقدرات الصاروخية الباليستية، وكذلك الصاروخية الدقيقة على أنواعها، ناهيك عن سلاح المسيّرات الذي أثبت فاعليته في قلْب الموازين العسكرية في الحروب والمواجهات، وهي فاعلية لا تفتأ تتزايد من دون أن يكون ثمّة «دواء» ناجع إزاءها.
- كذلك، فشلت إسرائيل، ومعها أميركا، في منع تعاظم قوّة محور المقاومة، دولاً ومنظّمات، وتحديداً في ما يتّصل بتطوير قدراته العسكرية، والتي بات بعضها يشكّل رادعاً حقيقياً لإسرائيل، كما هو الحال في الساحة اللبنانية. وهي قدرات لم تكن لتنشأ وتتعاظم من دون العامل الإيراني، الذي تحدّه من الشرق ومن الداخل الشمالي، الأحزاب الكردية.
- لم تستطع تل أبيب وواشنطن «خنْق» إيران وحلفائها اقتصادياً، على رغم الحصار المشدّد المفروض عليهم، والعقوبات القصوى التي طاولتهم.
- المفاوضات النووية باتت في حُكم الميتة، ما يعني أن التسويات المحتمَلة لمنع إيران من الوصول إلى القدرة العسكرية النووية، أو تأخير هذا الوصول، لم تَعُد واردة، وبالتالي، فإن إيران تقترب بلا رادع من امتلاك هذه القدرة التي تشكل تهديداً وجودياً للدولة العبرية.
-  في الدائرة الأولى المحيطة بإسرائيل، أي فلسطين بقواها المقاومة، تواصل إيران وحلفاؤها إمداد تلك القوى بأسباب الديمومة وتعظيم قدراتها الإيذائية، إلى جانب العمل على منع الاستفراد بها.
بناءً على ما تَقدّم، يمكن إجمال الحاجة الإسرائيلية إلى الورقة الكردية في هذه المرحلة، بأربعة وجوه:
- أولاً، توطين «الموساد» في الجغرافيا الكردية في شمال العراق، بما من شأنه تعظيم القدرات الاستخبارية الإسرائيلية، وتعزيز تتبّعها لإيران.
- ثانياً، إيجاد منصّة جغرافية يمكن القفز عبرها إلى إيران لتنفيذ اعتداءات من النوع الذي يجب أن يكون منطلقه قريباً من إيران نفسها.
- ثالثاً، الإضرار بجهات عراقية ترفض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وتصطفّ إلى جانب إيران في المواجهة القائمة بين الجانبَين.
- رابعاً، وهو الأهم، استخدام الأحزاب الكردية الإيرانية، والتي تنشط في شمال العراق، في تنفيذ عمليات في الداخل الإيراني، أو تأجيج الاحتجاجات وعسكرة الحراك، وصولاً إلى إمكانية تغذية المنطقة الكردية في شمال غرب إيران بعوامل الانفصال عن طهران، في إطار العمل على تطويق الجمهورية الإسلامية، وإشغالها بتهديدات من شأنها خلخلة تموضعها الهجومي ضدّ إسرائيل.