قبل أيام، سلّمت السويد، تركيا، عضواً في «حزب العمال الكردستاني» يُدعى محمود طاط، كان قد هرب إليها في عام 2015 بعد أن حكمت عليه محكمة تركية بالسجن 6 سنوات و10 أشهر. أمر ما كان قابلاً للتصوّر قبل حرب أوكرانيا التي دفعت السويد وفنلندا إلى طلب الانضمام إلى حلف «الناتو»، لتجدا الفيتو التركي في انتظارهما، ما اضطرّ استوكهولم إلى تقديم مِثل هذه التنازلات.تسلّط هذه الحادثة الضوء على الأفق المسدود الذي ما انفكّت القضية الكردية تُواجهه على طول المحطّات المهمّة في حياة الأكراد كقومية، منذ أن أصبحت هناك قضية خاصة بهم، عند تقاسم غنائم السلطنة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، حين رُسمت حدود دول المنطقة وحُذفت منها الدولة الكردية المفترضة. لكنّ المحطّة الأبرز في تلك القضية كانت بعد حرب الخليج عام 1991، حين أُقرّ الحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق، وأقيمت منطقة حظر طيران أميركية - غربية لحمايته، إذ إن هذا التطوّر أعاد إيقاظ أحلام الانفصال لدى كلّ الأكراد وليس أكراد العراق وحدهم، بعد سبات دام عشرات السنين، قبل أن يتّضح لاحقاً أن الأمر لا يعدو كونه محاولة أميركية لابتزاز دول الجوار التي تحتضن جاليات كردية، أكثر منه مقدّمة لدولة انفصالية. فالأميركيون الذين ورثوا الاستعمار البريطاني والفرنسي، ولم يستطيعوا تغيير قيد أنملة في الحدود التي رُسمت في ذلك الوقت، أدركوا أنه لو كانت ثمّة إمكانية لقيام دولة كردية، لأقيمت آنذاك.
مع ذلك، ينظر الأكراد، أينما كانوا، إلى إقليم كردستان العراق باعتباره قِبلتهم، وبارقة الأمل الأكبر بتحقيق الانفصال يوماً. ولذا تَحوّل إلى ملاذ للمقاتلين الانفصاليين الأكراد، ومحطّة انطلاق أعمال مسلّحة ضدّ بعض دول الجوار. وهذه ترتدّ على الإقليم باعتبار أن تلك الدول لن تجلس مكتوفة الأيدي عند استهدافها من المنطقة المذكورة، وهو ما يحصل حالياً مع إيران وتركيا اللتين يُظهر حجمهما وحده، صعوبة تحقيق أيّ تقدّم نحو الانفصال، كما اتّضح من الاستفتاء الفاشل على الاستقلال الذي أجري في أيلول 2017، على رغم تصويت غالبية كبيرة من الأكراد بنعم. هذا الاستفتاء أسقطته القوى العراقية الحليفة لإيران باستيلائها على مناطق في مدينة كركوك ومحيطها، لأنه كان من شأنه تمزيق البلد نفسه، قبل أن تتطاير شظاياه في كلّ الاتجاهات.
مع ذلك، تبقى المقارنة مع وضع الأكراد في دول أخرى، لمصلحة أكراد العراق بفارق شاسع، خاصة بعد أن تمكّنت تركيا إلى حدّ كبير من نقل الصراع مع أكراد جنوب شرق الأناضول إلى خارج الحدود في دول الجوار، حيث تسعى من هناك لسحق أيّ عمل مسلّح، في حين استفادت من الدور الكبير الذي أُسند لها في الأحداث السورية لضمان أن لا تقوم قائمة لأكراد سوريا. أيضاً، يحظى أكراد العراق بتساهل إيراني، حيث لم تكن قضيتهم القومية مطروحة بالقوة نفسها التي لها في دول المنطقة الأخرى، منذ إقامة «جمهورية مهاباد» في مناطق كردية إيرانية عام 1946، والتي لم تعش طويلاً، بعدما استعادت طهران السيطرة عليها في العام نفسه.
بارزاني يحاول شقّ صفوف «الاتحاد الوطني» عبر استمالة قياديين أمنيين فيه إلى حزبه


مع هذا الانسداد في الأفق، تحوّل آل بارزاني الذين يتحكّمون بالإقليم إلى حدّ كبير، إلى تجّار ومهرّبين ومتصيّدي فرص ضدّ دول الجوار، مستفيدين من المظلّة الأميركية التي تشمل تغطيتهم للقيام بمهام محدّدة، بدعم إسرائيلي وخليجي، مثل تلك التي يقومون بها حالياً على الحدود الإيرانية، حيث يتّضح أن زعيم «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، مسعود بارزاني، متورّط في الدخول على خطّ التظاهرات في البلد الجار. يستفيد بارزاني من ضعف الجيش العراقي لممارسة شكل فضفاض من الحكم الذاتي، يفوق ذلك الممنوح له بموجب الدستور العراقي الذي أُقرّ عام 2005، والاتفاقات اللاحقة مع حكومة بغداد، والقيام بأدواره التي تتجاوز الحدود العراقية، وتتخطّى السلطات التي يملكها في الداخل العراقي، سواءً في الإقليم نفسه أو في بغداد. وأحد أبرز مظاهر التجاوز المذكور، هو تهريب النفط عبر تركيا.
آخر مغامرات بارزاني أو مؤامراته، هي محاولته القضم من حصّة غريمه القديم، «الاتحاد الوطني الكردستاني» بقيادة بافل طالباني، في حكومة الإقليم، والمناصب المخصَّصة للأكراد في الحكومة المركزية. فلم يَعُد مسعود يشعر بعد الانتخابات العراقية في تشرين الأول 2021 التي حقّق فيها حزبه تقدّماً على حساب «الاتحاد»، بأن عليه الالتزام باتفاق تقاسم السلطة بين الحزبين الذي تمّ التوصل إليه عام 2006، وأسفر عن تشكيل حكومة موحّدة للإقليم بعد سنوات طويلة من القتال بينهما. لكنه هنا أيضاً يخاطر بارتداد المسألة سلباً عليه. فالإقليم ما زال يخضع مناصفة لسيطرة كلّ من «بيشمركة» الحزبَين على مدنه ومناطقه.
أكثر من ذلك، يحاول بارزاني اللعب داخل «الاتحاد الوطني» نفسه، مستفيداً من خلافات في قيادته، ليُحدث شرخاً في صفوفه عبر استمالة قياديين أمنيين انشقّ عدد منهم في الآونة الأخيرة وانضمّوا إلى صفوف «الحزب الديموقراطي» في أربيل. وبدأت الشكوك العميقة الكامنة بين الحزبين تعود إلى الواجهة، بعد اغتيال القيادي هوكر عبد الله رسول بانفجار سيارة مفخّخة في أربيل في السابع من تشرين الأول الماضي، وهو كان انشقّ عن «الاتحاد» في العام الجاري وانضمّ إلى «الديموقراطي» بعد أن خدم لمدّة عشرين سنة في الأجهزة الأمنية للأول، واضعاً اتفاق الضرورة بين الحزبين تحت أخطر اختبار له منذ نهاية الحرب، حيث يقاطع وزراء «الاتحاد» حالياً حكومة أربيل، وسط تلويح بعض مسؤوليه بأنه إذا لم تتمّ تسوية مجموعة كبيرة من القضايا الخلافية، فإنه قد ينفصل عن أربيل وينشئ حكومته الخاصة في السليمانية. وقد يؤدي ذلك بدوره إلى تعقيدِ مشروعٍ لتوسيع أحد أكبر حقول الغاز في العراق، يقع في مناطق سيطرة «الاتحاد»، ويحبط الآمال ببدء التصدير إلى أوروبا في السنوات القليلة المقبلة. ولذا، يستشعر الأميركيون والغرب الذين رعوا التسوية الكردية الداخلية، بقلق من أن تؤدي مطامع بارزاني إلى دفع «الاتحاد» أكثر في اتّجاه إيران، وبالتالي توسيع نفوذ طهران التي تتمتّع بعلاقات طيبة معه منذ زمن طويل.
يفعل بارزاني كلّ ذلك مختبئاً وراء بثّ الشعور بالاضطهاد لدى الأكراد، وهو تكتيك تعلّمه من حلفائه الإسرائيليين. فحين تحدّث أحد مسؤولين حزبه إلى «الأخبار» الشهر الماضي عن القصف الإيراني لمواقع أحزاب كردية إيرانية معارضة في كردستان العراق، استحضر قصف صدام حسين بالكيماوي ضدّ فلاحين بسطاء يزرعون حقولهم لتأمين أسباب العيش لعائلاتهم في كردستان. لكنّ المواجهة هنا تحصل مع آخرين تعرّضوا للقصف بالكيماوي نفسه.