مقالات مرتبطة
-
«سحابة» في أفق «التوجّه شرقاً»: الصين تُغضب إيران محمد خواجوئي
الاستراتيجية الأميركية لاحتواء «الصعود الصيني» لا ترتكز فقط على الانتشار العسكري في جوارها، وإقامة الأحلاف الإقليمية المناوئة لها. فعلى عكس الاتحاد السوفياتي، هي ليست قوة سياسية وعسكرية تتزعّم معسكراً موحّداً على قاعدة الأيديولوجيا، بل هي راهناً قطب اقتصادي وتجاري وتكنولوجي، إضافة إلى قدراتها العسكرية المتنامية، يمتدّ نفوذه إلى أنحاء الكوكب. التحدّي الرئيس أمام استراتيجية الاحتواء الراهنة، هو النجاح في الحدّ من هذا النفوذ، وحمْل بقيّة بُلدان العالم على الشروع في تفكيك شبكات المصالح الضخمة التي باتت تجمعها ببكين. لقد استيقظت واشنطن متأخّرة في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بعد سنين انغماسها في «الحرب على الإرهاب»، وأدركت حجم «التسلّل» الصيني في مختلف البقاع، بما فيها تلك المصنَّفة «منطقة مصالح وطنية حيوية» كالخليج، أو «حديقة خلفية» كأميركا الوسطى أو اللاتينية.
يعتقد صنّاع القرار في بكين أن الفارق الجوهري بين سياستهم والسياسة الأميركية، هو أن مشاريع طريق الحرير الكبرى تحتاج إلى الاستقرار
تزايُد الوزن الاقتصادي والتجاري، وتالياً السياسي، للصين كمنافس على الصعيد الدولي، أي في إطار السوق الرأسمالية العالمية، هو الذي حدا بالولايات المتحدة، الإمبراطورية العسكرية أولاً، إلى اعتماد سياسة الحصار العسكري ضدّها، وإدخالها في سباق للتسلّح، والعمل على زعزعة استقرارها عبر رعاية حركات انفصالية في داخلها، كما في التيبت وسين كيانغ، أو دعم «ثورات ملوّنة» كما في هونغ كونغ. لكنها جهدت أيضاً في محاولاتها لثني دول كثيرة عن الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، «البديل الصيني المستقبلي عن صندوق النقد والبنك الدوليين» في عُرفها، ولم تنجح في ذلك. فقد انضمّت دول كالسعودية ومصر، وأيضاً دول أوروبية، كألمانيا وإيطاليا وفرنسا، إليه عند تأسيسه في 2015. هي قامت بالأمر عينه لمنع الانتشار السريع لشبكات الجيل الـ5 (5G) التي تسيطر عليها الصين وفقاً لها. المنطق إيّاه يفسّر تحذيراتها المستمرّة من المخاطر الأمنية المترتّبة على الاستثمارات الصينية الضخمة في ميدان البنى التحتية «الحسّاسة» والموانئ والمطارات والصناعات الاستراتيجية، وإبرام العقود مع بكين في ميدان التسلّح بطبيعة الحال.
يوفّر التدهور المستمرّ في العلاقات الخليجية - الأميركية بشكل عام، والسعودية - الأميركية بشكل خاص، فرصة استراتيجية لبكين لإنجاز نقلة نوعية في تعاونها الاقتصادي والتجاري، وكذلك في ميدان الطاقة، مع هذه البلدان، وتوثيق صلاتها السياسية معها. وما يشجّع الصين على اتّباع تلك المقاربة، هو ما ظهر من اتّساع في هامش استقلالية البُلدان المشار إليها على خلفية الأزمة الأوكرانية، ورفضها الانصياع للضغوط الأميركية لفرض عقوبات على روسيا أو زيادة إنتاج النفط لتخفيض أسعاره. من منظور بكين، فإن الزيارة الأخيرة لشي جين بينغ للسعودية تمثّل اختراقاً كبيراً في منطقة كانت فضاءً حصرياً للنفوذ الأميركي، ولم تَعد هكذا. لا يعني ما تَقدّم البتّة إعادة نظر في الشراكة الاستراتيجية مع إيران، الدولة المستقلّة المناهِضة للهيمنة الأميركية، والتي أملتها مصالح كلّ من البلدَين، على الصعد الاقتصادية والاستراتيجية، وفي سياق استعار الهجمة الأميركية عليهما. بكين مقتنعة بأنها حاجة موضوعية إلى طهران، والعكس صحيح. لكن منطق اقتناص الفرص، بالمفهوم الرأسمالي للكلمة، هو الذي قاد الأولى إلى تقديم «محفّزات» لبلدان اعتادت على منح ولائها لواشنطن في مقابل الحماية، غير أنها لم تَعد مقتنعة بصوابية مِثل هكذا توجّهات في العصر الحالي، الذي تُعدّ سمته الأبرز تراجع القدرة الأميركية على الهيمنة والتحكّم والحماية. ويعتقد صنّاع القرار في بكين أن الفارق الجوهري بين سياستهم والسياسة الأميركية، هو أن مشاريع طريق الحرير الكبرى تحتاج إلى الاستقرار، وتشجّع عليه، بينما تسعى الإمبراطورية المنحدرة إلى إشعال الحرائق وزعزعة الاستقرار، ما قد يشجّع في المستقبل على دور وسيط للصين في البحث عن حلول سياسية للأزمات المستفحلة في المنطقة.