حازت القمّة الأميركية - الأفريقية (13 - 15 الجاري) المُنتهية منذ أيام، اهتماماً غير مسبوق، على رغم انحصار نتائجها في وضْع خطوط «استرشادية» عامّة لمسار هذه العلاقات حتى مطلع عام 2025 على أقلّ تقدير. وكشفت هذه النتائج تطلُّع الولايات المتحدة إلى القارّة الأفريقية بدولها المتنوّعة ككتلة واحدة، وخلْطها المقصود لأوراق التنافس مع روسيا والصين، وصولاً ربّما إلى اعتبارها إيّاه فزّاعة للقادة الأفارقة، لصالح نتيجة واحدة مفادها أنه على دول القارّة قبول «مبدأ بايدن - هاريس» (الرئيس الأميركي جو بايدن، ونائبته كامالا هاريس)، أي قبول الشراكة مع واشنطن كمخرج وحيد من أزماتها، أو مواجهة مزيد من الاضطرابات السياسية والاقتصادية والأمنية على خلفية الصراع بين القوى العظمى على أراضيها.
«السلام الأميركي»
انتهت القمّة الأميركية - الأفريقية بتأكيد واشنطن التزامها بتوسيع شراكتها مع الدول والمؤسّسات والشعوب الأفريقية وسط «عالم يتغيّر بسرعة»، والعمل على تعميق مجالات التعاون، والسعي إلى استثمار ما لا يقلّ عن 55 بليون دولار في أفريقيا في الأعوام الثلاثة المقبلة، بالتعاون مع الكونغرس وبمتابعة مباشرة عبر «الممثّل الرئاسي الخاص بأفريقيا»، وهو المنصب الذي استحدثتْه إدارة بايدن، وتَقلّده بالفعل السفير جوني كارسون، المخضرم في الدبلوماسية الأفريقية. وتضمّنت «خريطة الطريق الأميركية»، أيضاً، إقامة مجلس جديد للشتات الأفريقي، وتوسيع «مبادرة القادة الأفارقة الشباب» لدعم القطاع الخاص وأفارقة الشتات، وتقديم واشنطن دعماً أكبر لتمثيل أفريقيا في المنظّمات الدولية، وضمّ «الاتّحاد الأفريقي» إلى «مجموعة العشرين»، والعمل على تأمين مقعد دائم لأفريقيا في مجلس الأمن، والعمل مع الكونغرس على تقديم قروض بقيمة 21 بليون دولار عبر «صندوق النقد الدولي» للدول الأفريقية، وضخّ استثمارات جديدة في القارّة بقيمة 369 مليون دولار في قطاعات الأمن الغذائي والبنية الأساسية للطاقة المتجدّدة والمشروعات الصحّية، مضافةً إلى التزامات سابقة بالغة أكثر من 11 بليون دولار. كذلك، أعلن بايدن تقديم بليونَي دولار كمساعدات إنسانية طارئة للقارة، وأكد خُططه المعلَنة في «قمّة المناخ» الأخيرة في مصر للعمل مع الكونغرس على تقديم تمويل جديد بقيمة 150 مليون دولار للتكيّف المناخي في أفريقيا. أيضاً، أعلن بايدن «مبادرة الانتقالات الديمقراطية والسياسية الأفريقية» (باستثمارات بقيمة 75 مليون دولار) تعبيراً عن التزام بلاده بدعم الحكومات والمجتمعات المدنية «في لحظات حرجة»، والسعي لتأمين 100 مليون دولار (لمدّة 3 أعوام) لبرنامج «شراكة القرن الحادي والعشرين للأمن الأفريقية» للمساهمة في استدامة قدرة القطاع الأمني وإصلاحاته في القارّة.
يتّضح من بنود هذا البيان، عدم وجود تغيير حقيقي في أوجه اهتمام السياسة الأميركية في أفريقيا وأدواتها، عن آخر قمّة عُقدت في عهد الرئيس الأسبق، باراك أوباما (2014)، لجهة خلط الأرقام، وعدم تحديد مخصّصات ثابتة، وترك المسألة مفتوحة للتعاون مستقبلاً مع الكونغرس، فضلاً عن تناول مسألة الديمقراطية بشكل انتقائي، لا يؤشّر إلى تجاوز واشنطن النظر إليها كأداة لضبط العلاقات أو الضغط أحياناً لصالح مكاسب سياسية واقتصادية، وكذا عدم وضع آليات واضحة لضبط هذه العلاقات وتطويرها.

تدوير مخلّفات الاستثمار
استبقت الإدارة الأميركية القمّة الأخيرة بإعلان عزمها العمل مع الكونغرس لتأمين استثمارات ومِنح في أفريقيا بقيمة 55 بليون دولار، من دون تقديم تفاصيل حولها، أو مدى مساهمة القطاع الخاص فيها (قُدّرت مساهمة هذا القطاع بنحو 8 بلايين دولار في عام 2021)، مع تجاهل حقيقة تراجُع التبادل التجاري الأميركي - الأفريقي بشكل لافت في الأعوام الأخيرة. وإذ يؤشّر ذلك إلى الطبيعة الاستنزافية للاستثمارات المقبلة ولا سيما في قطاع الطاقة، فهو ينبئ بقصور مقاربة الولايات المتحدة لـ«التنافس» مع الصين اقتصادياً في أفريقيا، لعوامل عدّة من بينها تفهّم بكين الكامل والتقليدي منذ «إعلان شنغهاي» عام 1972 مع واشنطن، لحدود حركتها في القارّة السمراء، فضلاً عن فشل القمّة الأميركية - الأفريقية في تقديم حلّ مُرضٍ لما يُسمّى «فخّ الديون» الصينية، والذي وقعت فيه الكثير من الدول الأفريقية بالفعل (قُدّر عددها وفق «بلومبيرغ» في 18 الجاري بـ22 دولة، في مقدّمتها أنغولا بـ43 بليون دولار، وإثيوبيا بـ13.7 بليون دولار، ثمّ كينيا بـ9.2 بلايين دولار)، سواء عبر دعم مالي أو عبر عروض استثمارات حقيقية في قطاعات الطاقة والبنية الأساسية والتعدين لمنافسة الصين في «مناطق نفوذها» (والتي تتطابق خرائطياً بشكل مذهل مع أبرز حلفاء واشنطن تقليدياً في القارة، وهم إثيوبيا وكينيا وأنغولا وجنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية). والجدير ذكره، هنا، أن القروض الصينية للقارة تراجعت بالأساس من ذروتها في عام 2016 بقيمة 28.4 بليون دولار، إلى 1.9 بليون دولار في عام 2020، فيما تصدّرت جيبوتي، التي تحتضن أكبر قاعدتَين عسكريتَين للولايات المتحدة والصين خارج أراضيهما، قائمة الدول الأفريقية المتلقِّية لقروض الاستثمارات والبنية الأساسية الصينية في عام 2020-2021 بقيمة 1.4 بليون دولار.

ملفّا الأمن والديمقراطية
لفت النظرَ في الملفّ العسكري، انخراطُ وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، في المناقشات على نحو موسّع، ما يكشف عن أولوية واشنطن في هذه المرحلة، حيث «تُوسّع الصين مواطئ أقدامها يومياً»، و«تَخلق المشكلات التي ستؤدي إلى عدم الاستقرار إن لم يكن ذلك قد حدث بالفعل»، بحسب أوستن. وفي ملفّ الديمقراطية، رصدت «فورين أفيرز» (16 كانون الأوّل) أحد أبرز تناقضات المقاربة الأميركية في هذا المجال، باستضافة واشنطن الرئيس التشادي، محمد إدريس ديبي، والانخراط معه في محادثات أمنية وسياسية، بعدما خطّطت في تشرين الأوّل الماضي لتهريب أحد أبرز القادة التشاديين من البلاد إلى الولايات المتحدة في عملية عُرفت باسم «عملية موسى». في المقابل، حجبت الدعوة إلى القمّة عن خمس دول، هي إريتريا (التي لا تملك صلات دبلوماسية مع واشنطن) والسودان وغينيا ومالي وبوركينا فاسو على خلفية «انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ووقوع انقلابات عسكرية فيها»، على رغم أن إريتريا شريك أساسي لحملة آبي أحمد في إقليم تيغراي الإثيوبي منذ نحو عامين والتي أثارت انتقادات أميركية منتظِمة، وأن النظام التشادي الحالي جاء بانقلاب وراثي ناعم بعد مقتل الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي، وأن مامادي دومبويا، رئيس المجلس العسكري الحاكم في غينيا منذ أيلول 2021، أعلن في تشرين الأوّل الفائت عزمه عقْد انتخابات ديمقراطية في غضون عامَين، في إجراء يشبه كثيراً سياسة ديبي الابن.

التنافس مع الصين وروسيا
أفادت مصادر أميركية، عند ختام القمّة، بتخطيط بايدن للقيام بجولة أفريقية العام المقبل، فيما يبذل البيت الأبيض جهوداً حثيثة لإقناع القادة الأفارقة بأن قارّتهم تمثّل أولوية لواشنطن، وبأن الأخيرة تسعى إلى نقْل العلاقات إلى أبعد من «المخاوف الأمنية والأزمات الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان» التي هيمنت في السنوات السابقة على مسارها. مع ذلك، وعلى رغم ما أنبأت به هذه الأجندة من تفهّم أكبر للمخاوف الأفريقية، إلّا أن أعمال القمة شهدت توظيفاً مثالياً من قبل واشنطن لموضوع ملحّ دولياً، وهو التنافس الأميركي مع الصين وروسيا في القارّة. في ما يتعلّق بالأولى، رأى مراقبون أن القمّة لم تكن لتنعقد أساساً لولا تصاعُد النفوذ الصيني في أفريقيا في السنوات الأخيرة، وأن المؤتمر في حدّ ذاته يمثّل أداة من أدوات مواجهة ذلك النفوذ، الذي استفاد من نفور الدول الأفريقية من مشروطية المساعدات الغربية، وربْطها بفرْض ديمقراطية ليبرالية وسياسات سوق نيوليبرالية، في مقابل تعهّد الصين باحترام السيادة الأفريقية، مع التذكير هنا بأن بكين تفادت إلى الآن أيّ سياسات صدامية مع واشنطن في القارّة.
في المقابل، كشفت تصريحات عدد من القادة الأفارقة، وفي مقدّمتهم السنغالي ماكي صال، رئيس «الاتحاد الأفريقي» الحالي، عن جنوح أكبر إلى الاستفادة من متغيّرات التنافس الدولي الراهن على موارد القارّة. كما كشفت أن إعلان الإدارة الأميركية، عشيّة القمّة، على لسان مسؤول الأمن القومي جون كيربي، نأيها عن فرْض خيارات صِفرية على حلفائها (مع أو ضدّ) في ما يتعلّق بتوسّع نفوذ موسكو وبكين، نُظر إليه على أنه مجرّد رسالة طمْأنة لفظية بلا مضمون حقيقي. وعزّز من تلك القراءة خطابُ المسؤولين الأميركيين طوال القمّة، وكذلك بيان البيت الأبيض في ختامها، حيث جرى التركيز على التعاون الأمني «لمواجهة انتشار الأسلحة الروسية الرخيصة في أفريقيا»، على رغم ورود إشارات مبكرة بالغة الخطورة عن انتشار أسلحة أميركية سبق أن أرسلتها واشنطن و«الناتو» إلى كييف، بحسب تصريحات رسمية للرئيس النيجيري، محمد بخاري، حذّر فيها من مزيد من التدهور في إقليم بحيرة تشاد على وجه الخصوص.
أيضاً، وبينما تروّج واشنطن وآلتها الإعلامية لفكرة أن روسيا ضالعة بالأساس في أزمة ارتفاع أسعار الغذاء العالمية والتي أثّرت بقوّة على أفريقيا، تَكشف متابعة دقيقة مسؤولية العقوبات الأميركية وسياسات واشنطن ضدّ موسكو، عن منْع العديد من الدول الأفريقية من استيراد السلع الرئيسة من روسيا ولا سيما الأغذية والأسمدة، مع ملاحظة أن نحو 30% من أراضي المزارع الأوكرانية تُستغلّ من قِبَل الدول الغربية لإنتاج الغذاء وتوجيهه حصراً إليها، ما ضاعف بالفعل من أزمة انعدام الأمن الغذائي في القارّة، وألقى ظلالاً من الشك على مساعي واشنطن لمعالجة هذا الملفّ.

خلاصة
أوضحت القمّة الأميركية - الأفريقية قدرة واشنطن الكبيرة على إعادة تسويق دورها كقوة عظمى في أفريقيا من دون أعباء تُذكر، بالنظر بالأساس إلى طبيعة ترتيب الإدارة الأميركية في العادة أدوات الاستثمار والمساعدات والبرامج المختلفة. وفي الوقت نفسه، أوضحت الاجتماعات الجانبية والثنائية بين القادة الأفارقة والمسؤولين الأميركيين أن سِمة «طرْق الأبواب» غلبت على قمّة كان يُفترض أن تَخرج ببنود مصوغة ثنائياً وبتوازن، وهو ما لم يحدث. وفي المحصّلة، يبدو أن مبدأ بايدن - هاريس قد لا يؤتي أكله جزئياً إلّا مع نهاية عهد بايدن، بغضّ النظر عن الأوضاع السياسية في القارّة الأفريقية، والقابلة للتغيّر باستمرار. كما أن حفاوة واشنطن وإدارتها الحالية بعدد مِمَّن وصفتْهم في أحداث متفرّقة بـ«مجرمي حرب» أو «محرّضين على الإرهاب» و«معتدين على النُّظم الديمقراطية»، لا تثير أيّ دهشة، بالنظر إلى أداء الدبلوماسية الأميركية في أفريقيا، والتي لا تجد غضاضة في التدليس والتلاعب بمواقفها وسياساتها المتناقضة بشكل جلي، في قارة تقود أغلب دولها نُخبٌ متّسقة تماماً مع هذه الرؤى.