التواضع فضيلة، بخاصة بالنسبة إلى المعنيين بالشؤون الدولية من خبراء ومحلّلين وصحافيين. لقد أثبتت التطوّرات الصادمة في عام 2022، وفي مقدّمتها التدخُّل العسكري الروسي في أوكرانيا ومفاعيله الإجمالية، محدوديّة قدرة هؤلاء، والمؤسّسات البحثية والأكاديمية والإعلامية التي يعملون معها، على استشراف هذه التطوّرات، نتيجةً لرسوخ قناعاتهم، الأيديولوجية أولاً، بدوام التفوّق الغربي «النوعي» على «الآخرين»، والاستخفاف بتصميمهم على تحدّيه عندما تقتضي مصالحهم الحيوية ذلك، وبأن «التبعية الاقتصادية المتبادَلة»، بفعل العولمة، ستحُول دون لجوء القوى الكبرى إلى الحرب. أدرج معظم المحلّلين الغربيين الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا، قبل 24 شباط الماضي، في إطار «ديبلوماسية الاستعراض»، أي ممارسة الضغط لاستدراج تنازلات سياسية، وحتى الجهات التي حذّرت من احتمال الهجوم العسكري، ظنّت أنها ستمنعه بمجرّد الإشارة إليه. مهمّة الاستشراف بالغة المشقَّة في مراحل يتسارع فيها التاريخ. لم يتوقّع القطاع الأعرض في الأنتلجنسيا الغربية انهيار الاتحاد السوفياتي، ولا الأسباب الفعلية التي قادت إليه، ولا فشل مشروع «صياغة الشرق الأوسط» بقوّة الجيش الأميركي. كثيراً ما «يتمرّد» الواقع على التحاليل والفرضيّات شبه «المخبرية»، التي لا تأخذ في الحسبان شدّة تعقيد أبعاده المختلفة وتفاعلها.لقد شكّل التدخل الروسي في أوكرانيا منعطفاً حادّاً في مسار العلاقات الدولية، وأخرج إلى سطحها الديناميات الجيوسياسية والجيو-اقتصادية، المتفاعلة والمتناقضة، التي كانت تعتمل في باطنها. أضحت أوروبا مجدّداً مركزاً من مراكز الصراع الدولي، بعدما ظنّت لعقود طويلة أنها ستكون بمنأى عنه، وباتت «منطقة المحيطَين الهندي والهادئ»، بحسب التعبير المحبَّب لـ«التقارير الاستراتيجية الأميركية»، بؤرة توتُّر دولي متزايد، وظَهر إلى العلن مدى انحسار الهيمنة الأميركية والغربية مع اتّساع هامش استقلالية بلدان الجنوب وشروعها في بناء شراكات وازنة مع «المنافسين الاستراتيجيين» لواشنطن. ترتبط جميع هذه المستجدّات بعامل رئيس، وهو التغيّر المتنامي في موازين القوى الدولية، والمتأتّي من تراجع القدرة الأميركية على السيطرة العسكرية والاستراتيجية، وصعود دور القوى غير الغربية على صعيد عالمي. أمام مِثل هذا «التصادم التكتوني»، يَغلب المَيْل إلى مقارنة الحاضر المفاجئ والمستقبل المجهول بالماضي المعروف، انطلاقاً من أوْجه تشابه جزئية بين بعض المعطيات والوقائع، لمحاولة فهم ما يجري، فيتمّ استخدام مفاهيم مستعارة من زمن آخر، مِن مِثل «الحرب الباردة»، و«الديموقراطية في مقابل الاستبداد». في الحقيقة، وكما يلفت المفكّران برتران بديع، ودومينيك فيدال، في كتابهما الهامّ «العالم لن يعود كما كان»، والصادر أخيراً، فإن تلك الاستعارات ستضاعف تشوّش الرؤيا، ولن تتيح تفسير المجريات الراهنة ولا محرّكاتها الفعلية. قد يصبح المشهد أكثر وضوحاً عندما تسكت المدافع في أوكرانيا، لكننا ما زلنا بعيدين من هذه اللحظة. ما يمْليه التواضع المنهجي في هكذا حالة، هو محاولة قراءة الديناميات الجيوسياسية والجيو-اقتصادية التي سرّعتها الحرب الدولية الدائرة في هذا البلد، وما قد يترتّب عليها من تداعيات.
وفقاً للخطاب الغربي السائد، فإن واشنطن تقف في طليعة «الرابحين» من الحرب في أوكرانيا، لأنها أكدت قيادتها التي «لا بدّ منها» للمعسكر الغربي، عبر تقديمها المساعدة الأضخم عسكرياً ومالياً لكييف، وأحيت حلف «الناتو» بعد «دخوله في حالة موت سريري»، وموافقة أوروبا - من دون تردّد - على التخلّي عن فكرة استقلاليتها العسكرية والاستراتيجية، والاندراج مرّة أخرى في «الزمن الأطلسي». يضيف أصحاب الخطاب المتقدّم أن هذه الحرب هي بمثابة فرصة استراتيجية لاستنزاف روسيا، حليفة الصين، وإضعافها، وصيرورتها قوّة هامشية على المستوى الدولي في المستقبل، من دون الحاجة إلى التورّط في نزاع مباشر معها. هم يشيرون أيضاً إلى أن واشنطن مستفيدة من ارتفاع أسعار الطاقة لأنها تبيع غازها المسال للحلفاء الأوروبيين بسعر أغلى بـ4 مرّات من ذلك الخاص بالشركات الأميركية. لم يمنع هذا الأمر، بنظرهم، واشنطن من المضيّ في سياستها الهادفة إلى احتواء الصين في جميع المجالات.
لا شك في أن الولايات المتحدة قد حقّقت مكاسب جديّة في السياق الحالي، لكنها مكاسب ظرفية قد لا تدوم. هي أَحسنت توظيف الميول الأطلسية لغالبية النُخب الأوروبية الحاكمة، والتي لم يتحدّث بعضها عن ضرورة الاستقلال الاستراتيجي للقارة العجوز، سوى رد على استفزازات دونالد ترامب، لتعزيز وحدة «الناتو» تحت قيادتها. غير أنه من المحقّ التساؤل عن مدى استمرارية هذه الوحدة الأطلسية إذا طالت الحرب في أوكرانيا - ومن المرجّح أن تطول -، وتعاظمت أكلافها الباهظة على أوروبا، الخاسر الأكبر اقتصادياً واستراتيجياً منها حتى الآن. الارتفاع الهائل في أسعار الطاقة يعني بالنسبة إلى أوروبا فقدان القدرة التنافسية لاقتصاداتها، وتصاعداً في الانقسامات الاجتماعية - السياسية في داخل بلدانها، مع ما يستتبع ذلك من إضعاف لشرعية الخيارات التي أخذت بها نخبها الحاكمة. إصرار قسم منها على ضرورة التوصّل إلى حلّ تفاوضي مع روسيا «في النهاية»، كما يذكر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من حين إلى آخر، يُعدّ مؤشراً إلى إدراكها هذه الحقيقة، وإلى إمكانية التمايز عن التوجّهات الأميركية الحالية في مستقبل قد يكون قريباً.
النقطة الأخرى تتعلّق بوجاهة فرضيّة «كسْر روسيا لردع الصين». روسيا ليست على حافة الانهيار، كما اعتقد المسؤولون الغربيون عند فرضهم حُزم العقوبات الاقتصادية والمالية عليها، أو حين نجح الجيش الأوكراني في تحقيق انتصارات موضعية تبعتها إعادة انتشار للقوات الروسية. عسكرياً، هي تتهيّأ لخوض حرب طويلة قد يتخلّلها هجوم مضادّ في أواخر الشتاء الراهن، وقدرة اقتصادها على الصمود كانت إحدى مفاجآت النزاع الدائر. تشبه مقولة النَيْل من الصين عبر هزيمة روسيا، أطروحات المحافظين الجدد حول إعادة صياغة الشرق الأوسط للتصدّي بفعالية أكبر في ما بعد للصين وروسيا وأيّ قوّة منافسة أخرى. الحرب في أوكرانيا تتطلّب حشداً لموارد وجهود أميركية كبيرة في ظلّ مواجهة استراتيجية شاملة تكنولوجية واقتصادية وعسكرية وسياسية مع قوّة عظمى كالصين لم يسبق للولايات المتحدة أن خاضت مثلها في تاريخها! حذّر العديد من الخبراء الأميركيين من مغبة خوْض صراعات أخرى تمنع من التفرّغ وتخصيص القسم الأعظم من الموارد الأميركية المتضائلة، والجهود، للتصدّي للصعود الصيني الاقتصادي والسياسي. لقد أَظهرت القمتّان الخليجية - الصينية والعربية - الصينية تمدُّداً لنفوذ بكين في مناطق كانت، لزمن غير بعيد، فضاءات حصرية للنفوذ الأميركي. شجّعت واشنطن دول جوار الصين، كاليابان وكوريا، على مضاعفة إنفاقهما العسكري، كما شَرعت في تطوير برنامجها للتعاون العسكري مع تايوان، وهي جميعها توجّهات ستؤدّي إلى ارتفاع حدّة التوتُّر في منطقة المحيطَين الهادئ والهندي، وإلى ردود صينية مقابِلة، يأتي في إطارها إنفاق عسكري أكبر من قِبَل بكين، وتوثيق التعاون العسكري مع روسيا، وفق ما تؤشّر إليه المناورات العسكرية المشتركة المتزايدة بين البلدَين.
عطفاً على كلّ ذلك، فإن الذين يرون أن الولايات المتحدة تستفيد من ارتفاع أسعار الطاقة، يَنسون الآثار الشديدة السلبية على الاقتصاد والمجتمع الأميركيَّيْن نتيجةً للتضخم المتعاظم بفعل إطالة أمد الحرب في أوكرانيا. تجاهُل مثل هذا المعطى، في ظلّ الانقسام الحادّ الذي يشهده المجتمع الأميركي ووصول غالبية جمهورية إلى الكونغرس، يمنع من أخذ احتمال ولادة معارضة متنامية لمواصلة دعم أوكرانيا في الداخل الأميركي في الحسبان. المشهد الدولي أقلّ وردية بالنسبة إلى واشنطن، التي ما زال البعض مقتنعاً بأنها تتحكّم بشؤون العالم، كما كانت تفعل في بداية تسعينيات القرن الماضي. هي تقف في مقابل روسيا التي تَعدّ العدّة لحرب طويلة، والصين التي لم يتوقّف صعودها في جميع الميادين، ودول محورية في الجنوب خرجت عن طاعة أجندتها الاستراتيجية الإجمالية وباتت تتصرّف وفقاً لمصالحها وأجنداتها الخاصة. قد يكون من الصعب التنبّؤ بما سيكون عليه الوضع الدولي بعد عقد أو عقدَين، لكن المحسوم هو أن فرضيّة القرن الأميركي الجديد قد دُفنت إلى الأبد.