تُغني هذه الملامح التي ترسمها الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لشخصية سليماني، عن الكثير من التحليلات، لتبيان أولوية إزالة الخطر الذي كان يمثّله الشهيد. وعلى رغم جسامة الضربة التي استهدفت إزاحة هذا الخطر، إلّا أن المستهدَف بها لا يزال كامناً في كلّ منابع التهديد الأربعة التي تجسّدها إيران، وهي «النظام الإسلامي (في موقفه الجذري من أصل احتلال فلسطين)، وبرنامجه النووي، وتعاظمه العسكري، وبالتالي تزوُّد حلفائه بقدرات دقيقة وصواريخ مجنّحة وأنظمة دفاع جوّي لمواجهة قدرات سلاح الجوّ الإسرائيلي»، وفق ما يختصر تلك التهديدات قائد جبهة إيران في جيش العدو، اللواء طال كالمان، محذّراً من أن «إيران تُوظِّف إمكاناتها في استراتيجيات بعيدة المدى تهدف إلى تدمير دولة إسرائيل. هذا ليس غداً صباحاً، وإنّما عبر عملية تدريجية لحشرنا وإضعافنا، وفي نهاية الأمر تدميرنا».
على رغم ذلك، كَشف تصدُّر الولايات المتحدة واقعة الاغتيال، حقيقة المخاوف الإسرائيلية من الإقدام على هكذا خطوة، في الوقت نفسه الذي جلّى فيه خلفيات هذه الواقعة وغاياتها. فهي شكّلت رسالة ردع وتحدٍّ مباشرة، كما هدفت إلى توجيه ضربة قاصمة إلى الروح الجديدة التي بثّها سليماني في جبهة المقاومة التي تُواصل اكتمالها وتطوّرها، ومنْح رافعة لكلّ أعداء تلك الجبهة من فلسطين إلى اليمن مروراً بسوريا ولبنان والعراق وصولاً إلى الداخل الإيراني. بتعبير آخر، مثّل الاغتيال جزءاً من محاولة التأسيس لمعادلة جديدة في المنطقة، عنوانها الانخراط الأميركي المباشر في المواجهة مع إيران. لكن لكي يتحقّق هذا السيناريو، كان ينبغي للحادثة أن تُحقّق أهدافها الردعية والسياسية، وهو ما لم يجرِ لمسه إلى الآن (على رغم خسارة قائد بحجم سليماني، يتّسم بمؤهّلات استثنائية). والقياس هنا، إنّما يستند إلى ما وضعتْه جهات التقدير والقرار الأمني والسياسي في حساباتها لدى إقدامها على اتّخاذ قرار التصفية، والذي يتّضح بالاستناد إلى الشهادات الواردة أعلاه وغيرها، أنه كان مفرِطاً في الطموح.
شَكّل التخلّص من سليماني همّاً إسرائيلياً بامتياز، إلى جانب كوْنه مطلباً للولايات المتحدة ولكلّ حلفائها
لم يكن لاغتيال قائد «قوّة القدس» إلّا أن يحقّق واحدةً من نتيجتَين: إحباط الجهة المستهدَفة وإخضاعها، أو تزخيم الروح الثورية وتعزيز التصميم على مواصلة طريق الشهيد. ومن هنا، ليس أمراً تفصيلياً أن يتحوّل تشييع الفريق سليماني في إيران إلى استفتاء جدّي يكشف حجم القاعدة الصلبة للنظام هناك، وأن تُقابل طهران الرسالة الأميركية - الإسرائيلية باستهداف صاروخي مباشر ضدّ قاعدة للجيش الأميركي في عين الأسد، على رغم محاولات كثيرين التوهين من تلك الضربة. كما لا يُتجاهل التزام إيران الرسمي والمباشر باستكمال الردّ على الجريمة، بما يطال كلّ مَن له علاقة بها من رأس الهرم إلى الجهات التنفيذية. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن التقييم ينبغي أن يطلّ على مجمل الساحات التي كان للشهيد دور رئيس فيها، وفي هذه الأخيرة، تقرّ واشنطن وتل أبيب بأن مسار تطوير قدرات قوى المقاومة لا يزال تصاعدياً، وإنْ اختلفت وتيرته بحسب ظروف كلّ ساحة، وأن تصميم إيران وحلفائها على المضيّ في خياراتهما الاستراتيجية إنّما يزداد صلابة، حتى بعد استشهاد الفريق سليماني.