يشهد إقليم القرن الأفريقي أسوأ موجة جفاف خلال جيلَين كاملَين، تتهدّد حياة أكثر من 20 مليون نسَمة في الأشهر المقبلة، على امتداد العديد من دوله، وفي مقدّمتها الصومال وجنوب السودان وإثيوبيا. غير أن التطوّرات السياسية الراهنة تؤشّر إلى خفْض واضح في ديناميات الصراعات البيْنية في الإقليم، لصالح مقاربة توافقية تتّضح أكثر ما تتّضح في التقارب الإثيوبي - السوداني الأخير في الملفّات الأمنية والاقتصادية بداية، وكذلك في التزام أسمرا بإعادة دفعة من الجنود الصوماليين الذين كانوا يتدرّبون لديها إلى بلادهم بعد اتّهامات متكرّرة من سياسيين صوماليين لنظام أسياس أفورقي باحتجازهم، فضلاً عن الزخم الذي تولّده أنشطة بعض الشركات الدولية والإقليمية في الإقليم، وفق تفاهمات سابقة بين دُوله. ويتقاطع مع ما تَقدّم، الدورُ البارز والنشط للرئيس الكيني الجديد، وليام روتو، الوثيق الصلة بالولايات المتحدة، والذي أُطلق العنان لوساطاته في العديد من ملفّات الأزمات الأفريقية التي تهتمّ بها واشنطن.
كينيا «مُيسِّر» السياسة الأميركية
كشف روتو (حتى قبْل فوزه بمنصبه منتصف أيلول الفائت) عن جنوحه إلى استعادة موقع بلاده «الخاص» بالنسبة إلى واشنطن، كبوّابة اقتصادية وسياسية للقارّة الأفريقية ككلّ، وإقليم شرق أفريقيا الكبير على وجه الخصوص. وشكّل ملفّ تعزيز العلاقات التجارية الثنائية مع الولايات المتحدة، وإقامة علاقات جديدة وشراكات استراتيجية مع المستثمرين الأميركيين، واحدة من أبرز أولويات روتو بعد تقلّده رئاسة البلاد، المصنَّفة ضمن الديموقراطيات المستقرّة القليلة في أفريقيا، وزيارته التي تلت ذلك مباشرة لنيويورك لحضور أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث استضافتْه «غرفة التجارة الأميركية» في مائدة مستديرة رفيعة المستوى. وعزّزت مشاركة روتو في القمّة الأميركية - الأفريقية دوره في تيسير أجندة واشنطن في الإقليم، خصوصاً لناحية التوسّط في أزمتَي إقليم التيغراي الإثيوبي والصراع الرواندي - الكونغولي في المناطق الشرقية في الكونغو الديموقراطية.
كذلك، لعبت كينيا دوراً أكبر في خُطط واشنطن لما يُسمّى «مواجهة الإرهاب» في القرن الأفريقي، وخصوصاً في الصومال، الأمر الذي يتّضح في الاجتماعات الميدانية والتنسيقية المتكرّرة بين وزيرَي الدفاع والمسؤولين الأمنيين الكينيين والصوماليين (كان آخرها في 25 كانون الأوّل بزيارة كلّ من وزير الدفاع ونائب قائد قوّات الدفاع الكينيَّين، للقوّات الكينية العاملة في منطقة ميناء قسمايو جنوبي الصومال). كما مثّل اتّفاق الرئيسَين، روتو وشيخ محمود، على إعادة فتْح جميع المعابر البرّية الرئيسة على حدود بلدَيهما عقب مفاوضات مكثّفة بينهما اختُتمت أواخر 2022، تغيّراً كبيراً في سياسات كينيا الأمنية، وإنْ كان يتّسق بالأساس مع تغيّرات السياسة الأميركية العسكرية في المنطقة منذ مطلع العام الفائت. وألمحت الإدارة الأميركية إلى احتمال شمول نيروبي في محطّات جولة الرئيس جو بايدن الأفريقية المقرَّرة في عام 2023، والتي ستركّز بالأساس على محادثات تجارية جديدة مع عدد من أبرز حلفاء واشنطن، وفي مقدّمتهم كينيا في شرق أفريقيا. وهكذا، فإن اللقاءات المتكرّرة بين بايدن وروتو تعكس إلى حدّ كبير عودة كينيا القوية كنقطة ارتكاز أميركية في القرن الأفريقي على وجه الخصوص.

إثيوبيا والعودة إلى الملفّ السوداني
لفتت الحفاوة التي حظي بها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في القمّة الأميركية - الأفريقية، نظر المراقبين، ولا سيما أنها جاءت مباغتة بعد تقارير دولية ومحلّية عن استثناء الأول من التوجّه إلى واشنطن، «عقاباً» له على انتهاجه سياسات داخلية وخارجية «مارقة». ولربّما أمكن وضْع هذه الزيارة في واحد من سياقَين محدَّدين: إمّا سياسة «حافة الهاوية» الأميركية المألوفة في الإقليم منذ عقود، وما تقتضيه من فَرض حُزمة خيارات على المعنيّين في مرحلة أخيرة؛ أو تغليب دبلوماسية ظلّ تستهدف تحقيق أكثر من هدف بغضّ النظر عن المواقف السياسية المعلَنة. وبَرهن التقارب الإثيوبي - السوداني الذي تلا انتهاء أعمال قمّة واشنطن، التي لم يَحضرها رئيس «مجلس السيادة»، السوداني عبد الفتاح البرهان، ضمن ثلّة من القادة الأفارقة الذين حُجبت عنهم الدعوة إليها، على إتاحة مساحة مشروطة لحركة أديس أبابا في مجالها الإقليمي التقليدي في السنوات الأخيرة. ولعلّ من دلائل هذا التقارب، اتّفاق الاستخبارات العسكرية في البلدَين (24 كانون الأول) على تعزيز التعاون ومشاركة المعلومات الأمنية «لصالح السلم والأمن» فيهما، في ما رأى محلّلون أنه يستهدف بالأساس مواجهة نموّ أنشطة الجماعات الإرهابية أو المسلّحة في المناطق الحدودية، في إطار أوسع من جهود أديس أبابا لاستعادة هيمنتها على حدودها مع السودان، ولا سيما القسم الواقع منها على امتداد إقليم التيغراي.
وعلى رغم تعثّر ملفّ ترسيم الحدود بين البلدَين، والذي كان نظام البرهان يراه أولوية سيادية في الأشهر الماضية، فإن ملفّ التعاون التنموي شهد اختراقاً لافتاً، ربّما هو الأبرز منذ سقوط حكومة عبدالله حمدوك قبل أكثر من عام، بانعقاد «اللجنة الفنّية المشتركة السودانية - الإثيوبية» لمناقشة دراسة جدوى لمشروع سكك حديدية للربط بين أديس أبابا وبورتسودان بطول 1522كم، يُعتبر من أهمّ محاور حركة إثيوبيا لخفض اعتمادها شبه التامّ على ميناء جيبوتي في تجارتها الخارجية. وجاء هذا التقارب فيما كانت القوى السياسية السودانية الموقِّعة على «الاتفاق الإطاري» تستعدّ لإطلاق المرحلة الثانية من عملية هادفة إلى إقامة حكومة مدنية انتقالية، وهي العملية التي أعلنت أديس أبابا دعمها دعماً كاملاً، حيث رأت وزارة خارجيتها مطلع كانون الأوّل أن الاتفاق «خطوة هامّة نحو تكوين حكومة مدنية ستقود البلاد إلى انتخابات وطنية حرّة ونزيهة». ويؤشّر السلوك الإثيوبي الراهن إلى رجحان انخراط أديس أبابا في المرحلة الانتقالية في السودان بزخم أكبر، والعودة التدريجية إلى دعم الأولى التقليدي للقوى المدنية السودانية، تعزيزاً لقدراتها التفاوضية في مواجهة نظام البرهان المدعوم مصرياً. ويأتي ذلك في ظلّ حديث مصادر إعلامية متنوّعة عن عودة إثيوبيا إلى مسار علاقاتها التقليدية مع الولايات المتحدة، بعد تعيين الأخيرة إرفين جوزيه ماسينجا، الدبلوماسي البارز في الخارجية الأميركية ومستشار وزيرها لسنوات فائتة، سفيراً لها في أديس أبابا في أعقاب خلوّ المنصب قرابة العام.

إريتريا والصومال: فضّ الاشتباك؟
بدأ الصومال، بعد منتصف كانون الأوّل، استعادة قوّاته التي سبق إرسالها إلى إريتريا للتدريب، إثر احتجاجات شهدتْها المدن الصومالية على خلفية اتّهامات للنظام الصومالي السابق بالتخاذل، وترْك القوات «أسيرة» لنظام أسمرة. وكانت حكومة الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، الذي تولّى منصبه في أيار 2022، قد أكدت فقدان خمسة آلاف جندي في إريتريا، متعهّدة بإعادتهم «قريباً». وبالفعل، وصلت الدفعة الأولى من هؤلاء الجنود (الذين وردت تقارير متكرّرة عن مشاركتهم في القتال في حرب التيغراي الأخيرة إلى جانب عناصر إريترية وحكومية) إلى الصومال قبل نهاية الشهر الماضي، فيما يُتوقّع - بحسب تصريحات رسمية صومالية - انخراطهم في مواجهة «الجماعة المسلّحة المعروفة بالخوارج» (في إشارة إلى جماعة "الشباب" الإرهابية)، مع ملاحظة أنه قد تمّ تسكينهم في قاعدة لم يفصَح عنها ريثما يتمّ نشرهم. والشاهد من هذه الخطوة نجاح الضغوط الصومالية والأميركية على نظام أسياس أفورقي لإعادة الجنود الصوماليين (الذين وصلوا إلى إريتريا للمرّة الأولى في عام 2019 لتلقي التدريب هناك وفي دول أخرى مثل تركيا)، فيما قد يؤشّر إلى اندماج إريتري إضافي في النظام الإقليمي الآخذ في التبلور حالياً، في ضوء محدِّدَين بارزَين وهما: صعود دور وليام روتو، واحتواء جموح نظام آبي أحمد أو ربّما إعادته إلى مساره المفترض قبل نحو خمسة أعوام. إضافة إلى ذلك، وعلى رغم تصاعد أعمال العنف في الصومال مطلع العام الجاري، فإن مقديشو تحدّثت (6 كانون الثاني) عن سعي جماعة «الشباب» لخوض «مفاضات مفتوحة» معها للمرّة الأولى، ما قد يؤشّر إلى متغيّر هامّ وحقيقي في ملفّ مواجهة الإرهاب، ودفعة كبيرة ستمثّلها عودة القوّات الصومالية من إريتريا على صعيد دعم الجيش وقوات الأمن الوطنيَّين.

دبلوماسية الموانئ الإماراتية: احتكار سواحل الصومال؟
أفادت تقارير صومالية هامّة، نهاية الشهر الماضي، بأن شركة «موانئ دبي» تتابع بنهم واضح سياسات احتكارية لفرض هيمنتها على استثمارات الموانئ الصومالية، وأنها لا تكتفي بمساعي الفوز بمشروعات بعينها كما في بربرة وبوصاصو في ولايتَي أرض الصومال وبونتلاند على الترتيب، بل إن جهود الشركة - التي تلقّت ضربة مؤلمة في جيبوتي قبل نحو أربعة أعوام بقرار حكومة الأخيرة استبعادها عن إدارة ميناء دوراليه - تَعدّت هذه المساعي إلى العمل على إقصاء أيّ منافِسين محتمَلين (ولا سيما الصين وتركيا وقطر) لاستثماراتها في الموانئ الصومالية.
لفتت الحفاوة التي حظي بها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في القمّة الأميركية - الأفريقية

كما كشفت التقارير عن توظيف الشركة لعدد من كبار المسؤولين في الولايات الصومالية، أبرزهم - بحسب المصادر - رئيس بونتلاند، سعيد عبدالله دني، الذي يستعدّ لتمديد فترة رئاسته للإقليم، لصالح خطط «موانئ دبي» المستقبلية، سواء في الفوز بحقوق إدارة وتشغيل ميناء قسمايو في جوبالاند، أو الحصول على منطقة تجارة حرة في ميناء جرعد في بونتلاند، والذي طوّرتْه السلطات المحلّية في الولاية وتمّ تشغيله فعلاً نهاية تشرين الأوّل الفائت. وأشارت التقارير إلى قيام دني بزيارات ميدانية نهاية كانون الأوّل لإقناع السلطات المحلّية وأهالي المنطقة - من دون جدوى حتى الآن - بمنح الشركة الإماراتية الأرض الكافية لإقامة منطقة تجارة حرّة في الميناء، الذي يُعدّ واحداً من أبرز مشروعات التنمية في الصومال والقرن الأفريقي بالنظر إلى حجم حركة تجارته المرتقبة من دول الإقليم الحبيسة.

خلاصة
تبدو التحوّلات الراهنة التي تجتاح جميع دول القرن الأفريقي، بما فيها إريتريا، وعلاقاتِها البيْنية، مؤشّراً إلى سياسات خفْض الاستقطابات في ما بينها، وهو ما يُعزى في جانب منه إلى تدخّلات واشنطن، والتي تستهدف استعادة المظلّة الأميركية كاملة فوق الإقليم، الذي يكتسب أهمّيته بالأساس - حتى اللحظة - من موقعه الاستراتيجي، وتشابكات هذا الموقع الإقليمية، وارتباطاته بالتجارة الدولية في عالم آخذ في الاضطراب السياسي والاقتصادي والعسكري. وعلى رغم تعدّد الأطراف الإقليمية المتصارعة في الإقليم (مِن مِثل الإمارات وقطر وتركيا والسعودية)، وارتباطاتها المعروفة بالسياسات الأميركية في القرن الأفريقي، فإن غالبية المؤشّرات تفيد بوجود نوع من «تقسيم عمل» براغماتي برعاية واشنطن، ما بين تولّي تركيا مهام التعاون الأمني والعسكري مع دول الإقليم (كما في حالتَي الصومال وإثيوبيا)، وسعي الإمارات للاستحواذ على كلّ أو غالبية مشروعات تطوير الموانئ مقابل تقديمها ضمانات بعدم المساس بأوضاع سياسية وسيادية، وذلك ضمن ترتيبات أميركية أوسع تتّضح شيئاً فشيئاً في الوقت الراهن.