أنهى أفيف كوخافي، أمس، أربع سنوات في رئاسة أركان جيش الاحتلال، من دون أن يُحدث الانقلاب «الموعود» في استراتيجية مواجهة إيران وحلفائها، على رغم كثرة الحملات الإعلامية التي قادها الرجل لتظهير عهده بوصْفه حاملاً للإنجازات. صحيح أن فترة ولايته تَرافقت مع تحوّلات غير سهلة طرأت على البيئتَين الاستراتيجية والعملياتية لإسرائيل، وأن شللاً حكومياً طويلاً صاحبها بما أثّر على أبواب الإنفاق لدى الجيش، وأن هذا الأخير استمرّ في تطوير قدراته على رغم تلك الصعوبات، إلّا أن «الحلول» التي ابتدعها كوخافي لدرْء المخاطر المتعاظمة في وجه الكيان، أثبتت قصورها عن أداء ما هو مطلوب منها، مستثيرةً انتقادات داخلية شرسة للوضع «المأساوي... والمتدهور بشكل عميق»
لم يشذّ رئيس أركان جيش العدو، أفيف كوخافي، عمّن سبقه من رؤساء الأركان في محاولة إضفاء طابع احتفائي على موعد انتهاء ولايته. منذ بدء العدّ التنازلي لهذا الموعد الذي حلّ بالأمس، دأب كوخافي على التمهيد له بسلسلة مقابلات أطلق فيها مواقف وتقديرات بدت في غالبها أقرب إلى الاستعراض، من دون أن تحجب حقيقة التطوّر المتواصل لجيش العدو، عسكرياً وتكنولوجياً، بفعل الدعم الأميركي الثابت له. على أن ما بين البروباغندا والحقيقة مسافة فاصلة ينبغي تمييزها، درْءاً للوقوع في شرَك الحرب النفسية، واستراتيجية تعظيم إنجازات هذا القائد أو ذاك. كذلك، تَجدر استعادة المتغيّرات الإقليمية التي تولّى كوخافي في ظلّها رئاسة الأركان، وطبيعة السياسة التي اعتمدها، ونوعيّة النتائج التي أفرزتْها، للتقرير ما إذا كانت أدّت إلى تضاؤل المخاطر أم تكاثرها.
تزامَن صعود كوخافي إلى منصبه، مطلع عام 2019، مع تحوّلات طرأت آنذاك على البيئتَين الاستراتيجية والعملياتية لإسرائيل، لعلّ أبرزها انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، وبدء إيران ردّاً تدريجياً على ذلك بالتخفّف من القيود التي يفرضها الاتفاق، فضلاً عن تكرُّس فشل الاستراتيجية الهادفة إلى إسقاط سوريا ورئيسها تمهيداً لنقلها إلى المحور الأميركي. بالتوازي مع ما تَقدّم، أقرّ كوخافي، في أوّل جلسة له مع هيئة الأركان في شباط 2019، بأن الرسم البياني (لمسار تطوّر القدرات) يؤشّر إلى تقلُّص الهوّة النوعية بين الجيش الإسرائيلي من جهة، وبين تنظيمات كـ«حزب الله» و«حماس» من جهة أخرى، وهو ما يَفرض على الأوّل المبادرة إلى خطوات عملياتية من أجل إعادة توسيع تلك الهوّة قبل فوات الأوان.
بناءً عليه، عمد الجيش، في ظلّ قيادة كوخافي، إلى تطوير رؤيته القتالية وبُنيته، في ما مثّل امتداداً لخطط سابقة بدأ العمل عليها منذ ما بعد حرب عام 2006. إلّا أنه بفعل الوتيرة المتسارعة لسباق الجهوزيّة، تبلورت حالة من اللامبادرة العسكرية في مواجهة إيران و«حزب الله»، إلى حدّ باتت معه مقولة إن الجيش لا يزال يعمل على رفْع مستوى جهوزيته، أقرب إلى لازمة ثابتة، وهو ما يُعزى إلى نجاح المقاومة اللبنانية في تقويض العديد من مفاعيل ذلك التطوّر، عبر ابتكار صيغة هجينة للقتال تُميّزها عن الجيوش النظامية، والعمل على نقْلها إلى قطاع غزة وساحات مواجهة أخرى. وفي هذا المجال، يقول رئيس أركان الجيش السابق، غادي أيزنكوت، إن «حزب الله هو مَن ابتكر وطوَّر صيغة المعركة اللاتماثلية مع إسرائيل في المنطقة»، الأمر الذي ولّد قناعة لدى الأخيرة بتراجع قدرتها على الحسم العسكري الذي بات أكثر كلفة وصعوبة، فضلاً عن حتميّة تحوّل جبهتها الداخلية إلى ساحة قتال حقيقية، وهو ما يكبحها عن المبادرة إلى خيارات عملياتية كبرى.
من الواضح أن جيش العدو يواصل تطوير قدراته العسكرية والتكنولوجية بدعم أميركي متصاعد


على المستوى الإيراني، واصلت طهران قفزاتها النوعية غير المسبوقة، رافعةً درجات التخصيب إلى 20% و60%، ومطوِّرةً المزيد من أجهزة الطرد المركزي. كما واصلت تحسين دقّة صواريخها وفاعلية مُسيّراتها، وتزويد حلفائها بهذه القدرات في لبنان وسوريا وغزة والضفة والعراق واليمن. وفي مواجهة ذلك، عمد كوخافي إلى بلورة خطّة «تنوفا/ زخم، اندفاعة» بعد ورشة استمرّت عدّة أشهر، وشارك فيها كبار الضباط، بهدف جعْل الجيش «أكثر ذكاءً وأشدّ فتكاً»، ومضاعفة قدرته على التدمير في البحر والبرّ والجوّ، وفق ما أدلى به كوخافي نفسه أمام وزير الأمن. وتَمثّل الاختبار العملي الأوّل لتلك الخطّة في معركة «سيف القدس» عام 2021، حيث فشل جيش العدو في الكمين الاستراتيجي الذي أعدّه لتدمير القوة الخاصة لحركة «حماس». كما كان يمكن للكباش البحري مع «حزب الله» أن يشكّل مناسبة لخوض مواجهة كبرى على أساس «تنوفا»، إلّا أن المؤسّسة العسكرية ارتدعت عن هذا الخيار، وأوصت المستوى السياسي بالتوصّل إلى اتفاق.
من جهة أخرى، فإن الشلل الحكومي الذي عاشتْه إسرائيل منذ عام 2019، أي السنة التي كان يُفترض أن تشكّل نقطة بداية الخطّة، شكّلت عقبة جدّية حالت دون تَحقّق الآمال التي عقدها عليها كوخافي. ومع ذلك، ومن أجل الحدّ من تأثير الأزمة السياسية على خُططه، حدّد رئيس الأركان المنصرف جملة أولويات ركّز فيها النفقات على حساب مصاريف أخرى، وواصل سياسة تطوير قدرات الجيش على المستويات كافة. أيضاً، تابع العدو اعتداءاته في إطار استراتيجية «المعركة بين الحروب»، التي تحوّلت إلى سياسة تقليدية باتت أطراف «محور المقاومة» أكثر خبرة في التعامل معها، وأقدر على الالتفاف عليها. أمّا الحدث الأبرز في خلال ولاية كوخافي، فتَمثّل في اغتيال قائد «قوّة القدس» في الحرس الثوري الإيراني، الشهيد قاسم سليماني، ورفيقه الشهيد أبو مهدي المهندس، والذي رأت إسرائيل فيه إنجازاً نوعياً، من دون أن تتحقّق رهاناتها التي وضعتْها عليه من أجل إحداث تحوّلات دراماتيكية على المستويَين العملياتي والاستراتيجي.

نتائج وتقويم
بالمقارنة مع ما كان عليه برنامج إيران النووي في عام 2019، أصبح واقع هذا الملفّ مع مطلع العام الجاري، وبشهادة شريك كوخافي في أغلب ولايته، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، اللواء تامير هايمن (2018-2021)، «خطيراً جدّاً في كلّ ما يتعلّق بتخصيب اليورانيوم والمشروع النووي الذي يتقدّم كلّ يوم» («كان» 10/1/2023). وبلغ الأمر بهايمن حدّ الدعوة إلى «فحص الاستراتيجية التي أدّت بنا إلى هذا الوضع الإشكالي»، الذي أضحت فيه جميع الخيارات الإسرائيلية إزاء إيران «غير جيّدة» («يسرائيل هيوم»، 28/12/2022)، في ما يمثّل إقراراً صريحاً بفشل استراتيجية كوخافي. ويُضاف إلى ما تَقدّم، تطوّر قدرات طهران الدفاعية والهجومية على السواء، وتعزيز تعاونها العسكري مع موسكو، والدور الذي باتت تلعبه مسيّراتها في حرب أوكرانيا.
أمّا في ما يتعلّق بـ«حزب الله»، فإن محطّة الاختبار البحري أظهرت تحوّلاً في معادلات القوّة لمصلحة «حزب الله»، الذي استثمر ذلك التحوّل في انتزاع ما طالبت به الحكومة اللبنانية من حقوق. كما شكّل مناسبة لبروز انتقادات من داخل الجيش حول عدم جاهزية سلاح البرّ، في وضْعٍ وصَفه ضبّاط رفيعو المستوى بـ«المأساوي... والمتدهور بشكل عميق». ولعلّه يمكن الاكتفاء بما أدلى به أحد أعضاء هيئة الأركان، من أن الجيش امتنع عن أيّ خيارات عملياتية ضدّ «حزب الله»، في الوقت الذي «يقيم فيه الأخير بشكل هادئ في لبنان مصانع، ويواصل صنْع وتطوير قذائف صاروخية دقيقة وصواريخ طويلة المدى من دون أن نردّ على ذلك»، وأنه «عندما تكون بحوزتهم صواريخ دقيقة فإن الحرب ستكون مختلفة». («الأخبار»، 11 كانون الثاني 2023).
في الخلاصة، من الواضح أن جيش العدو يواصل تطوير قدراته العسكرية والتكنولوجية بدعم أميركي متصاعد. لكن في المقابل، من الواضح أيضاً أن «حزب الله» وإيران وبقيّة أطراف «محور المقاومة» نجحوا في تكريس معادلة ردع إقليمي، وفّرت لهم مظلّة ناجعة لتعظيم إمكاناتهم كمّا ونوعاً، وبمستويات سمحت المتغيّرات الدولية الأخيرة بإماطة اللثام عن بعض جوانبها، مع التذكير، هنا، بأن أحد أهمّ عناصر العقيدة القتالية لـ«حزب الله» وإيران، هو إبقاء هامش مهمّ للمفاجآت في الميدان، ما يعني أن ما يخفيانه قد يكون أشدّ خطورة وفتكاً ممّا ظَهر حتى الآن.