منذ أكثر من عامَين، وعلى إثْر الهجمات التي طاولت منشآت عسكرية في غرب إيران ومنشآت نووية في أصفهان وكرج، عمدت طهران إلى اتّخاذ إجراءات وتدابير دفاعية تمثّلت في تعزيز شبكات الرادار والدفاعات الجوّية القصيرة المدى في المرافق المهمّة كافّة، إضافة إلى نقْل المصانع العسكرية إلى أبنية محصَّنة. إلّا أن تلك الإجراءات لم تَحُل دون استهداف أحد مجمّعات الصناعات الدفاعية التابعة لوزارة الدفاع قرب مدينة أصفهان، علماً أن المجمّع الذي طالتْه الضربة الأحدث، قائمٌ في منطقة سكنية، خلافاً لمصانع القوّات المسلّحة التي تقوم أغلبيتها في الضواحي والمناطق المفتوحة، وهو ما قد يؤشّر إلى أنه أقلّ حساسية من هذه الأخيرة. ويُضاف إلى ما تَقدّم أن الهجوم وقع في وقت متأخّر من الليل، ما يعني أنه لم يستهدف قتْل علماء أو مهندسين إيرانيين، فضلاً عن أن المسيّرات التي استُخدمت فيه كانت تحمل عبوات ضئيلة التأثير، وبالتالي فإن مُرسلها لم يُرِد ربّما إلحاق ضرر كبير بالمنطقة المستهدَفة. بناءً عليه، يبدو الهجوم أقرب إلى رسالة «رمزية» إلى إيران، وتحديداً إلى مؤسّستها العسكرية، بأن إسرائيل لا تراها بعيدة عمّا يجري في فلسطين، وأن التصعيد في الأراضي المحتلّة، ناتجٌ، في وجه من وجوهه، من انخراط المحور الذي تقوده طهران في المواجهة مع تل أبيب، وأن دولة الاحتلال مستعدّة لـ«مساعدة» الأطراف الغربية المنزعجة من التقارب الإيراني - الروسي، وما يُحكى عن انخراط إيراني في الحرب الأوكرانية، في ما يشبه تظلّلاً بذلك الانزعاج لتصعيد العمل العدائي ضدّ إيران. أمّا الجانب الأميركي، الذي سارع إلى غسْل يديه من العملية، فالظاهر أنه يريد استثمارها من أجل استعجال العودة إلى طاولة المفاوضات النووية «تحت النار»، خصوصاً أن إبقاء هذا الملفّ ساكناً لا يفيد أيّاً من الأطراف المعنيّة بكبح برنامج إيران النووي.على الضفة المقابِلة، تطرح العملية تساؤلات عمّن أحضرَ المسيّرات وجهّزها للانطلاق وزوّدها بالإحداثيات، إذ على الرغم من أن التحكّم بها يمكن أن يتمّ عبر الأقمار الصناعية، إلّا أن مداها القصير جدّاً يحتّم وجود «متعاونين» على الأرض، وهو ما يؤشّر إلى أن المؤسّسات الأمنية الأجنبية لا تزال لديها أذرع في الداخل الإيراني، شأنها شأن إسرائيل، التي لا تفتأ تحاول الاستثمار في وجود حركات انفصالية ومناهِضة للنظام تعمل ضدّه منذ ثلاثة عقود. كذلك، يحفّز الهجوم دعوات إلى الردّ الصاخب والعلني، وهو ما لا تحبّذه السلطات الإيرانية، خصوصاً أن أغلبية الهجمات التي تستهدفها تكون عبارة عن ردّ على تحركات إيرانية صامتة، بعضها كان مؤذياً لإسرائيل. وبالتالي، فإذا كان الهدف جرّ طهران إلى معركة تتبنّى فيها هجمات ضدّ أهداف إسرائيلية، بما يستوجب اصطفافاً دولياً ضدّها، فإن الأولى تُحاذر الانجرار إلى هكذا سيناريوات، على رغم أن الإحجام عن الردّ الصاخب قد يولّد اعتقاداً بضعفها وقصورها عنه. وممّا يعزّز هذا التوجّه أيضاً، أن جانباً من أغراض تل أبيب من العملية يتمثّل في إسماع بعض الداخل الإسرائيلي المعترض بأن إيران تتلقّى الضربات، وإيهام الخارج بضعفها العسكري وبالتالي بإمكانية استهدافها، وهو ما يبدو صنّاع القرار الإيرانيون مدركين له، وعازمين على التعامل معه بعقل بارد، ووفق الاستراتيجية نفسها التي اتّبعتها طهران طوال السنوات الماضية، في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من «خطّة العمل المشتركة الشاملة».