دفعت أزمة المنطاد الصيني، العلاقات الصينية - الأميركية إلى مستوى جديد من التأزيم، عبّر عنه خصوصاً موقف «البنتاغون» الذي جزم بأن المنطاد أُطلق لأغراض «استطلاعية وتجسّسية»، تؤكد بكين عدم صحّتها. وبين التهويل الأميركي، وما قابلَه من تهوين صيني، ترتسم علامات استفهام كبيرة حول المهمّة الحقيقية لـ«المنطاد - الأزمة»، إلّا أن هناك مَن يرى أن غمز بكين (المفترَض) من سماء واشنطن، ربّما يعني أنها تودّ القول إن عصراً جديداً من توازن الردع قد انبثق، وإن تحرّكات السفن الحربية الأميركية قرب مياهها، ولا سيما في مضيق تايوان، لن تبقى من دون ردّ
منذ القمّة التي عُقدت بين الرئيسَين الأميركي جو بايدن، والصيني شي جين بينغ، في بالي الإندونيسية، على هامش فعاليات «قمّة الدول العشرين الكبرى» (G20)، في تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، لم يتغيّر واقع العلاقات الصينية - الأميركية المتوتّر، ولا سيما على خلفية الوضع في تايوان، وبسبب ما تَعتبره واشنطن دعماً صينيّاً للحرب الروسية في أوكرانيا. والأكيد أيضاً، أنه لم تكن تَنقص العلاقات الثنائية عوامل تفجير إضافية، عبّر عنها تواتر الأنباء عن تحليق منطاد صيني على ارتفاعات شاهقة فوق أراضي الولايات المتحدة، وتحديداً منطقة مونتانا، التي وصلها قادماً من جزر ألوتيان، شمال المحيط الهادئ، عبر أراضي كندا، من دون أن تُعرف تفاصيل دقيقة حول نقطة انطلاقه.
أزمة المنطاد، الذي روّجت واشنطن مزاعم عن قيامه بـ«مهامّ تجسّسية» لمواقع عسكرية حسّاسة، وهو الأمر الذي نفته بكين مؤكدة «الطابع العلمي السلمي» لتلك المهامّ، أعادت العلاقات الأميركية - الصينية إلى مربّع التوتّر. فالواقعة التي باغتت إدارة الرئيس الأميركي، استبقت زيارة لوزير خارجيته، أنتوني بلينكن، إلى العاصمة الصينية، بكين، هي الأولى من نوعها منذ عام 2018، وكانت مقرّرة بهدف البحث في الملفّات الخلافية بين أكبر اقتصادَين في العالم، مع المسؤولين الصينيين.
ومنذ الساعات الأولى لورود الأنباء، بدا واضحاً، في ضوء تصريحات أركان إدارة بايدن، وعدد من أعضاء الكونغرس، من الحزبَين «الجمهوري» و«الديموقراطي»، المستنكِرة لما عدّوه «عملاً مزعزعاً للاستقرار»، و«انتهاكاً لسيادة البلاد»، حجم الريبة، والعدائية تجاه الصين في أوساط النخبة السياسية في واشنطن. فمن جهته، جَزم الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية، باتريك رايدر، بأن بكين أَطلقت المنطاد لأغراض «استطلاعيّة وتجسّسية» فوق أراضي بلاده، في حين كان السناتور «الجمهوري» عن ولاية أركنساس، توم كوتون، في عداد المطالبين بإلغاء زيارة بلينكن. أمّا رئيس مجلس النواب، كيفن ماكارثي، فقد ناشد بايدن عدم السكوت إزاء ما جرى، داعياً إلى عقْد جلسة استماع عاجلة لرئيسَي لجنتَي الاستخبارات في غرفتَي الكونغرس لبحث واقعة المنطاد، على أن تَعقد «لجنة المراقبة الحكومية» في مجلس النواب الأميركي جلسة إحاطة للغرض نفسه اليوم الإثنين. وفي الاتجاه نفسه، أصدر عضوا ما تُعرف بـ«لجنة الصين» في مجلس النواب، وهما النائب «الجمهوري» مايك غالاغر، وزميله «الديموقراطي وراجا كريشنامورثي، بياناً مشتركاً أدانا فيه الخطوة الصينية، واعتبرا أنها «لا تعكس تغييراً حقيقيّاً في سياسة» بكين.
وبين التهويل الذي طبع ردّ الفعل الأميركي حيال الأزمة، وما قابله، حتى الآن، من تهوين عبّر عنه الجانب الصيني، الذي وصل إلى حدّ إبداء الأسف، والإقرار بأن المنطاد «انحرف بصورة غير مقصودة عن مساره المقرّر خلال مهمّته البحثيّة الخاصّة في مجال الأرصاد الجوية»، ترتسم علامة استفهام كبيرة حول المهمّة الحقيقية لـ«المنطاد - الأزمة». فبالتوازي مع الإعلان عن إسقاطه بعد تتبّعه لعدّة أيام، وفور خروجه من فوق أراضي الولايات المتحدة في اتّجاه مياهها الإقليمية، بصاروخ «جو - جو» أُطلق من طائرة «إف-22»، تزايدت التساؤلات حول طبيعة مهمّة المنطاد.
ربّما تودّ الصين القول إن عصراً جديداً من توازن الردع قد انبثق

رسميّاً، سارع مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية، إلى القول إن الدراسات التي أجرتها واشنطن على المعدّات في المنطاد الصيني، أَظهرت أنها «تُستخدم لمهمّات التجسّس والاستطلاع». وفي هذا الصدد، تضاربت التحليلات والاستنتاجات حول فحوى الرسالة التي أرادت الصين توجيهها إلى الأميركيين، وأيّ مهمّة أُوكِلت إلى المنطاد، الذي تمهّلت إدارة بايدن في إسقاطه نزولاً عند رأي عدد من القادة العسكريين، بزعْم الخشية من إلحاق الأذى بالمدنيين الأميركيين.
بالتأكيد، ثمّة من يتبنّى الرواية الرسمية لواشنطن، ويذهب إلى إثباتها من خلال القول إن بكين تعمّدت إطلاق المنطاد في اتّجاه الأراضي الأميركية، بهدف تجميع صور دقيقة لا توفّرها عادة الأقمار الاصطناعية الحديثة، ولا سيما أن تكلفة إطلاق المنطاد هي أقلّ بكثير من إطلاق قمر اصطناعي تجسّسي. وربطاً بما أفصحت عنه وزارة الدفاع الأميركية، واستناداً إلى تتبُّع خطّ سَيْر المنطاد، وتحليقه فوق أراضي الولايات المتحدة وصولاً إلى ولاية مونتانا، تلفت بعض المصادر العسكرية الغربية إلى أن المنطقة المشار إليها بالتحديد تقع فيها واحدة من ثلاث قواعد أميركية حيث تتمّ صيانة وتشغيل صواريخ «Minuteman-3» الباليستية، العابرة للقارات، ملمّحة إلى أن المؤسّسة العسكرية الصينية تُولِي اهتماماً خاصّاً بمراقبة ما يدور في تلك الولاية الأميركية، الواقعة في الشطر الشمالي الغربي للبلاد، بهدف التوصّل إلى تحديد إحداثيّات دقيقة لمواقع قواعد الصواريخ الباليستية في مدينة غرايت فولز هناك، كنوع من التحسُّب لأيّ مواجهة عسكرية قد تندلع بين البلدَين.
وبحسب خبراء متخصّصين في تكنولوجيا الاتصالات، فإن أحد الأسباب التي تدفع الصينيين للركون إلى تكنولوجيا تجسّسية تعود إلى القرن الثامن عشر، يرجع إلى كون المناطيد عادة ما تحلّق على ارتفاعات تُراوح بين 24 ألف متر و37 ألف متر من سطح الأرض، خلافاً للأقمار الاصطناعية المحلّقة ضمن المدار المنخفض فوق سطح الأرض، أي على ارتفاع يُراوح بين 160 و2000 كيلومتر منه، ما يرجّح فرضيّة وجود مهمّة استطلاعية للمنطاد. وضمن الإطار نفسه، تهمس مصادر غربية بأن الغاية الحقيقية للصين من وراء إطلاق المنطاد، قد تقتصر على محاولة اختراق منظومة الاتصالات الأميركية، وبخاصّة تلك العاملة على التردّدات العالية، ذات الموجة القصيرة، وهو نطاق من الموجات الراديوية التي يمكن رصْدها بسهولة من خلال المنطاد، ما يمكن أن يقدّم خدمات استخبارية جليلة للقادة العسكريين الصينيين. وعلى رغم غياب إجابة جامعة داخل مؤسّسة «البنتاغون» حول السؤال المتعلّق بدواعي «الغزوة الصينية» للأجواء الأميركية، يميل البعض إلى تقديم تفسير سياسي بحت للأمر، يكاد يكون محاكاة معكوسة لأزمة طائرة التجسّس الأميركية التي أَسقطتها الصين فوق أجوائها عام 2001، تريد القيادة الصينية من خلالها تذكير إدارة الرئيس بايدن، ومن خلفها الدوائر المتحكّمة بالسياسة الخارجية في واشنطن، أو ما يُعرف بالـ«Establishment»، بضرورة أن تعي سريعاً حجم المتغيّرات المتلاحقة على مستوى العالم، بدءاً من حرب أوكرانيا. ومن بوابة الغمز من سماء الولايات المتحدة، ربّما تودّ الصين القول إن عصراً جديداً من توازن الردع قد انبثق، وإن تحرّكات السفن الحربية الأميركية قرب مياهها، ولا سيما في مضيق تايوان، الذي تَعدّه مياهها الإقليمية، لن تبقى من الآن فصاعداً من دون ردّ.