من النادر أن يتمّ تناول الدعم العسكري المقدَّم من دول الغرب لأيّ جهة «حليفة»، بـ«شفافية» شبيهة بتلك السائدة اليوم حيال دعم أوكرانيا. حرصت الأطراف الغربية المختلفة، عند اتّخاذها قرارات ضخّ الأسلحة إلى هذا البلد، بما فيها الأسلحة النوعية التي مثّل إرسالها تحدّياً للخطوط الحمر الروسية، على أن يصاحب ذلك تطبيل إعلامي يهدف إلى إبراز مدى تصميم الغرب الجماعي على مساندة كييف «حتى النصر». لكن الإشكالية الفعلية تكمن في تقديم تعريف لهذا «النصر» يحظى بإجماع المسؤولين الأميركيين والغربيين، وجيوش الخبراء والمحلّلين العاملين لحسابهم و/أو المروّجين لأطروحاتهم. فما يتّضح عند مراجعة مواقف جميع هؤلاء، ليس غياب إجماع كهذا فقط، بل التباين الكبير، إلى حدّ التناقض في ما بينهم أحياناً، عند تحديد الأهداف النهائية للحرب الدائرة حالياً.تسارعت الخطوات التصعيدية من قِبل دول «الناتو» في الآونة الأخيرة. فبعد موافقة الدول المذكورة على تسليم كييف دبابات ثقيلة يتراوح عددها إلى الآن بين 120 و140 دبابة «ليوبارد - 2» الألمانية، و«أبرامز» الأميركية، و«تشالينجر» البريطانية، قرّرت واشنطن مدّها بصواريخ «GLSDB» الأميركية التي يصل مداها إلى 180 كلم، أي صواريخ طويلة المدى، وقبِلت باريس بتسليمها رادارات فرنسية من الجيل الجديد قادرة على كشف أهداف جوية معادية في دائرة قطرها 200 كلم. إضافة إلى كلّ ذلك، فإن الحديث عن منح أوكرانيا طائرات مقاتلة، بات رسمياً مع زيارة وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنكوف، إلى فرنسا، والإعلان عن إمكانية إعطاء بلاده مقاتلات «ميراج 2000»، وأيضاً عن احتمال موافقة إدارة جو بايدن على قيام دول تمتلك طائرات «أف 16»، كبولندا وهولندا، بتقديمها إلى كييف، على الرغم من رفض بايدن، خلال مؤتمر صحافي عقده الإثنين الماضي، أن تبادر بلاده مباشرة إلى خطوة كهذه.
الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا يتطوّر كمّاً ونوعاً. وبموازاة ذلك، ترتفع حدّة تصريحات بعض القادة العسكريين الأطلسيين، والتي لم تعُد تتردّد في التطرّق إلى فرضية الصدام المباشر مع موسكو. ففي مقابلة مع التلفزيون البرتغالي، اعتبر الأميرال الهولندي روب بوير، رئيس اللجنة العسكرية لـ«الناتو»، وهي الهيئة العسكرية الأعلى للحلف، أن هذا الأخير أصبح جاهزاً لمثل صدام كهذا. قال بوير إن «الناتو يواجه تهديداً من روسيا التي تتحرّك باتّجاهه، في توقيت مِن اختيارها، وليس أمامنا سوى الاستعداد لذلك». بطبيعة الحال، فتح كلام بوير الباب أمام التأويلات حول الظروف التي قد تفضي إلى السيناريو المُشار إليه، وما إذا كان استهداف موسكو لأحد بلدان «الناتو» هو الذي سيقود إليه، أو أن المبادرة إلى التدخل في النزاع الدائر على أرض أوكرانيا في حال تقهقر جيشها في مقابل هجوم روسي، ضمن منطق استباقي، هو المعنى الفعلي الذي قصده المسؤول «الأطلسي». الأكيد حالياً هو أن تقدير الموقف الذي شاع في أوساط القادة السياسيين والعسكريين الغربيين، وروّجته أبواقهم الإعلامية، حول قرب اندحار الجيش الروسي من أوكرانيا، بعد انسحابه من خاركيف وخيرسون، قد ثبت افتقاده إلى الحدّ الأدنى من الجدية، وأن الطرف الروسي استعاد المبادرة وأضحى يتقدّم مجدّداً في ساحة المعارك ولو ببطء، وضمن «استراتيجية قضم تدريجي»، قبل استكمال استعداداته للهجوم المضادّ الكبير مع نهاية الشتاء. هذه الوقائع الميدانية، وليس الأماني الوهمية بانتصار أوكراني «حاسم»، هي على الأغلب ما يفسّر النقلة النوعية في مستوى المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا.
ترتفع حدّة تصريحات بعض القادة العسكريين الأطلسيين، والتي لم تعُد تتردّد في التطرّق إلى فرضية الصدام المباشر مع موسكو


السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه في ظلّ ما يرجّح أن يكون صراعاً طويلاً يصعب استشراف تداعياته المباشرة وغير المباشرة المتعدّدة الأبعاد الجيوسياسية والجيو-اقتصادية بالنسبة للقيادة الأميركية، هو ذلك المرتبط بمدى انسجام مِثل هذا السيناريو مع الأولويات الاستراتيجية لواشنطن ومصالحها العليا. تقرير صادر عن مؤسسة «راند»، الوثيقة الصلة بـ«البنتاغون»، في كانون الثاني الماضي، يحمل في عنوانه، «تجنّب الحرب الطويلة»، إجابة أولية على السؤال المتقدّم. يرى معدّا التقرير، صامويل شاراب وميرندا بريب، أن إطالة أمد الحرب، وما يستتبعه من خسائر بشرية ومادّية بالنسبة لروسيا، يزيد من احتمالات استخدام الأخيرة للأسلحة النووية التكتيكية، وأيضاً من إمكانيات صدام مباشر بينها وبين حلف «الناتو». وفي المقابل، يعتقد الكاتبان أنه في حال استمرار النزاع من دون تدخّل غربي مباشر، ستنجح روسيا في التقدّم ميدانياً مجدداً، والسيطرة على أراضٍ تقع خارج «الدونباس»، فيما الأكلاف الاقتصادية المترتّبة على استمرار الحرب بالنسبة للولايات المتحدة والبلدان الغربية، فضلاً عن بقية دول العالم، مرشّحة للتعاظم هي الأخرى، بخاصة في ما يتعلّق بارتفاع أسعار الطاقة والحبوب. وإلى جانب ما تَقدّم، ينبّه شاراب وبريب إلى أن تورّط الولايات المتحدة في إدارة هذه المواجهة والتعامل مع نتائجها ومفاعيلها، سيحدّان من قدرتها على التفرغ لأولوية «منافَستها الاستراتيجية» مع الصين.
العمل على تجنّب الحرب الطويلة، والبحث عن سبيل لوقف المعركة الجارية، وإن لم يتضمن أسساً لتسوية دائمة، هو ما يدعو إليه لايل غولدشتاين، الباحث في «معهد الدراسات البحرية حول الصين» في كلية الحرب البحرية الأميركية، في مقال بعنوان «هل تتّجه حرب أوكرانيا نحو حلّ على النمط الكوري؟»، على موقع «ريسبونسيبل ستايت كرافت». البراغماتية الغالبة على مقاربة غولدشتاين، وكذلك على تقرير «راند»، تعكس بلا ريب رأي تيّار وازن في البنتاغون والجيش الأميركي لا يحضّ على إيجاد مخرج من المأزق الراهن في أوكرانيا «حقناً للدماء» و«حرصاً على الإنسانية»، بل لأن المخاسر بالنسبة للولايات المتحدة، بنظر هؤلاء، تفوق المرابح، ولأن الصين ستكون المستفيد الرئيس من مثل هذا الوضع. ولن تنجح النبرة العالية والخطب الحماسية حول ضرورة «انتصار الديموقراطيات» في حجب الحقائق التي تُظهرها موازين القوى في الميدان.