اتّشحت تركيا بالسواد، معلِنةً الحداد سبعة أيام. وكاد عنوان واحد يطغى على جميع الصحف: «انهرْنا» أو «تدمّرْنا». لم يكن زلزال السادس من شباط حدثاً عاديّاً، فهو لم يقتصر على منطقة أو مدينة، بل شمل عشر محافظات وعشرات المدن والقرى، حاصداً حتى الآن ما يزيد على أربعة آلاف قتيل وعشرين ألف جريح، فيما لا يزال كثيرون تحت أنقاض المباني المدمّرة التي يتعدّى عددها عشرات الآلاف، وربّما أكثر بكثير. ولأن الكارثة الإنسانية التي حلّت بتركيا أكبر من قدرات الدولة على مواجهتها، أعلنت نداء الاستغاثة طلباً لمساعدة الدول الخارجية، وإنْ كان أيضاً «يتوجّب» على أنقرة مواجهة ما حلَّ بالمناطق السورية الخاضعة لسيطرتها، والتي تُركت لقَدَرها عاريةً من أيّ قدرة على الإنقاذ. وعلى رغم الكارثة المهولة، أبى «حزب العدالة والتنمية» إلّا أنْ يُدخِل المأساة في دهاليز السياسة المحلّية الضيّقة.وفي اليوم التالي لكارثة الزلزال، صدرت الصحف التركية، وقد صبغت أسماءها باللون الأسود؛ وجاء في بعض عناوينها: «كارثة القرن» («جمهورييات» و«أقشام»)؛ «كارثة العصر» («صباح»)؛ «مِثل القيامة («يني شفق» و«تركيا» و«ميللييات»)؛ «لقد انهرْنا يا تركيا» («قرار»)؛ «انهرْنا» («يني تشاغ» و«مللي غازيتيه» و«يني برلك»)؛ «مَدَد يا رب» («ميلاد»). وفي كلمة متلفزة، أمس، وصف الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الزلزال بأنه «من الأكبر في تاريخ الزلازل في العالم»، معلناً عن «رصْد مبلغ مئة مليار ليرة تركية (حوالى خمسة مليارات دولار)» لهذا الغرض. ولفت أيضاً إلى أن أكثر من 50 ألف شخص من فرق الإنقاذ التركية، يعملون في المناطق المتضررّة، التي سيصلها 50 ألف خيمة ومئة ألف سرير. وفي خطوة من شأن طريقة تطبيقها أن تثير بعض التساؤلات، أعلن إردوغان تفعيل حالة الطوارئ في المناطق المتضرّرة لمدّة ثلاثة أشهر، شاكراً الدول الخارجية على المساعدات التي قدّمتها، وداعياً إلى استمرار الدعم بمعزل عن الوضع السياسي في تركيا.
ومع أن الزلزال عمّ بأضراره كلّ المناطق التي اهتزّت، برز انطباع بأن منطقة هاتاي (الإسكندرون) كانت الأكثر تعرّضاً للإهمال مِن بين المناطق الأخرى المتضرّرة، وبأنها تُركَت لمصيرها. وفي هذا الجانب، يقول رئيس بلديتها، لطفي صاواش، إن «هاتاي لم تكن مستعدّة للزلزال، على رغم أنّني حذّرت منه قبل أسبوعين فقط... لقد كتبنا للحكومة عشرات الرسائل لتدارك الوضع قبل حدوثه. ولم نحصل حتى على أجوبة لرسائلنا. إن الحكومة لا تَعتبرنا حتى موجودين». وبدورها، شنّت الرئيسة السابقة للبلدية، حملة على السلطة، قائلة: «هنا لا دولة ولا هيئة مواجهة الكوارث ولا أحد. الوضع وخيم جدّاً». وأضافت: «أنطاكيا تُركت وحدَها، ولم تَعُد موجودة. أمانة أتاتورك غير موجودة. لقد قُتل الآلاف. لقد تُركت هاتاي كما في كلّ مرّة. لقد انهرْنا وننتظر المساعدات من الخارج».
برز انطباع بأن منطقة هاتاي (الإسكندرون) كانت الأكثر تعرّضاً للإهمال مِن بين المناطق الأخرى المتضرّرة


وعن خلفيّات الكارثة التي وقعت، نقلت هاندي فرات، في «حرييات»، عن الخبير الجيولوجي، ناجي غورير، قوله إنه «منذ الهزّة التي ضَربت إيلازيغ عام 2010، كنتُ متأكّداً أنها لن تقف عند حدودها، وأن زلزالاً لا بدّ سيحدث في المناطق هناك، وقد ناشدتُ السلطات للاستعداد لذلك، ونَبَتَ الشعر على لساني وأنا أتكلّم عن الموضوع. وعندما شعرْنا بالزلزال الساعة 4:17 فجراً، لم أتمالك نفسي وبقيتُ ساعة ونصف ساعةٍ أبكي». ولفت الخبير إلى أن العِلم كان يقول إن «هذا الفالق سوف ينكسر»، مشيراً إلى أن «الزلزال قويّ إلى درجة شعرت به مصر»، إذ إن «زلزالاً تَزيد قوّته على سبع درجات، يشبه انفجار مليون و800 ألف طن من مواد «تي إن تي» الشديدة الانفجار». وأضاف: «مركز الزلزال قد كُسر. وهو أفضى إلى موجات متلاحقة وصلت إلى مصر. الزلزال قويّ جدّاً، وحصلت انكسارات وتحرّكت الصخور. الأخطر هو الهزّات الارتدادية. وأضنة وهاتاي معرّضتان أكثر من غيرهما للأخطار الجديدة». ودعا غورير إلى إنشاء وزارة للكوارث والعمل مثل اليابانيين لمدّة 20 سنة لنصل إلى نتيجة، لأنه «إذا حصل زلزال مشابه في إسطنبول (مثلاً)، فإن أكثر من 60 ألف مبنى ستتهدّم».
وفي صحيفة «ميللييات»، ذكر غونيري جيفا أوغلو، أيضاً، أن «العلم يقول إن زلزالاً بقوّة سبع درجات وما فوق، يفوق قوّة انفجار قنبلة هيروشيما بـ32 مرّة. وإن زلزالاً بدرجة 7.8، هو أكبر بـ708 مرّات من زلزال بقوّة ستّ درجات»، مشيراً إلى أن الزلزال الذي ضرب في تركيا هو الأكبر منذ زلزال 1939 في أرزنجان، والذي بلغت قوّته 7.9 درجات. وتساءل: «لكن، هل اتّعظنا وأَخذنا الدرس الكافي؟»، مبيّناً أن «الزلازل لا تَقتل، بل المباني. لذا يجب أن نعمل على مبانٍ قادرة على مواجهة الزلازل كما في اليابان. فعلى رغم الكوارث التي تضرب هذه الأخيرة، فإنّنا لا نسمع سوى عن قتيل أو اثنين». ومن جهته، صبّ المفكّر المعروف، إيمري كونغار، جام غضبه على «المتعهّدين والرقابة الحكومية على تشييد الأبنية، للإخلال بالمواصفات وتحقيق أكبر قدْر من الربح على حساب النوعية. حتى إذا جاء الزلزال، لن تستطع أن تصمد». وكلّ ذلك، بحسبه، «يقع تحت عناوين قلّة المعرفة والعلم والمساءلة والتربية والأخلاق وغياب الديموقراطية... حتى المباني لا تقتل وليس فقط الزلازل، بشرط أن نخرج من تخلّفنا وسياساتنا وتعهّداتنا السيئة».
من جهته، أشار مصطفى بلباي، في صحيفة «جمهورييات»، إلى أن الإجابة الوحيدة بين الناس، هي أن «الخراب العام» في كلّ مكان، لأن «الإهمال وقلّة المحاسبة سبب أساسي للكوارث». كما انتقد صدور إعفاءات خاصّة وعامّة ومن وقت إلى آخر تخصّ دافعي الضرائب، كما مُنتهكي مواصفات قانون البناء، معتبراً أن «الإعفاء الأوّل محا الاقتصاد، والثاني محا تطوّر المدن»، لافتاً إلى أن «عدد الذين تقدّموا بطلب إعفاء له علاقة بتشييد المباني، بلغ عشرة ملايين طلب». ودعا بلباي، السلطة والمعارضة معاً إلى التخلّي عن المزايدات والتوجّه إلى العلم، مُبيّناً أنه بالنظر إلى أن الزلزال شمل مناطق واسعة من جنوب شرق تركيا، يمكن تسميته، وفق الكاتب، بـ«زلزال الأناضول الكبير».
في هذا الوقت، لم يتأخّر «حزب العدالة والتنمية» عن محاولته استغلال الكارثة؛ إذ خرج الناطق باسمه، عمر تشيليك، بتصريح جاء فيه: «نحن كتحالف الجمهور موجودون في الميدان. كما لجنتنا المركزية، كذلك اللجنة المركزية لحزب الحركة القومية، وقد أرسلنا كلّ نوابنا إلى مناطق الزلزال». وخلال مؤتمر صحافي عَقده في أضنة، كرّر تشيليك الإشارة إلى جهود «تحالف الجمهور» في مواجهة الأوضاع، من دون أن يشير إلى الدولة إلّا لماماً. وقد أثارت تصريحاته هذه انتقادات واسعة، ذلك أن أجهزة الدولة هي التي تتكفّل بجهود الإغاثة.
أمّا على صعيد المساعدات الدولية، فقد بدأت بالوصول إلى تركيا من مختلف دول العالم التي أرسل معظمها فرقاً للإنقاذ، وخصوصاً روسيا والهند وتايوان التي أوفدت 130 شخصاً مع معدّاتهم ومساعدات، كما أًرسلت فرنسا فِرقاً من 139 شخصاً، وبعثت أوزبكستان بمئة شخص. وأعرب رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، بدوره، عن ألمه للضحايا الذين سقطوا، مبدياً استعداد بلاده لتقديم أيّ مساعدة ممكنة. كذلك، غادرت ستّ فِرق إنقاذ إيران، مُتوجّهة إلى تركيا للمساعدة في إخلاء العالقين تحت الأنقاض، فيما شكّل الاتحاد الأوروبي «خليّة تدخّل» حول الأوضاع في تركيا وسوريا.