لندن | تنحّت نيكولا ستورجين عن منصب الوزيرة الأولى لإقليم اسكتلندا، بفعل تعنّت تبديه حكومة المحافظين في لندن تجاه مسعى «الحزب القومي الإسكتلندي» الذي تقوده الوزيرة المستقيلة، لإجراء استفتاء جديد على الاستقلال عن التاج الملكي، فضلاً عن تجميد لندن قانوناً خاصاً بالنوع الاجتماعي كان برلمان الإقليم قد أقرّه. في هذا الوقت، تعمل الأحزاب الموالية للحُكم البريطاني، على استغلال رحيل ستورجين للدفع في اتجاه إجراء انتخابات عامة مبكرة، فيما يبيّن البعض أن طموحات الإسكتلديّين لنَيْل الاستقلال، أقوى من أن تتلاشى بمجرّد انسحاب أحد القادة من الميدان السياسي.
أعلنت نيكولا ستورجين استقالتها من منصبَيها: وزيرة أولى لإقليم اسكتلندا، وزعيمة لـ«الحزب القومي الإسكتلندي»، في أعقاب توسّع الجدال داخل حزبها حول استراتيجية التعامل مع تعنّت الحكومة البريطانية المستمرّ إزاء مسألة إجراء استفتاء جديد على استقلال الإقليم، والانقسامات الحادّة حيال تشريع يسمح باختيار الأشخاص اعتباراً من سنّ الـ 16 عاماً، تعريف أنفسهم قانونيّاً كعابرين جنسيّاً من دون الحاجة إلى إجراء فحوص طبية. وكانت لندن استخدمت سلطتها لوقف العمل بهذا القانون، على رغم إقراره من قِبَل البرلمان الإسكتلندي.
وكانت ستورجين (52 عاماً) تولّت، في عام 2014، المنصبَين المذكورَين، خلفاً لأليكس سالموند الذي فشلت حكومته، وقتها، في الحصول على تأييد الغالبية للانفصال عن التاج البريطاني، وذلك في استفتاء أُجري في ذلك العام، وأسفر، في حينه، عن غلبة مؤيّدي البقاء ضمن المملكة المتحدة بنسبة 55%. وعلى مدى ثماني سنوات، قادت ستورجين حزبها نحو نجاحات انتخابية متكرّرة، على رغم الانتقادات التي تعرّضت لها من جانب الطبقة العاملة حول إخفاق حكومتها في تحسين جودة التعليم والخدمات الصحية، واتهامها بارتكاب مخالفات مالية وانتخابية. وقد ارتفع التأييد لها بشكل ملحوظ بعد تصويت 62% من الاسكتلنديّين لمصلحة البقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي، توازياً مع فشل حكومات المحافظين في لندن في التعامل مع سلسلة الأزمات التي تواجهها المملكة. وتخطّط الوزيرة الأولى للبقاء في منصبها إلى حين اختيار خلف لها، على أن تبقى عضواً في البرلمان الإسكتلندي حتى الانتخابات العامّة المقرّرة في الإقليم، عام 2026.
وتعليقاً على قرارها بالتنحّي، أصرّت ستورجين على أنه «ليس ردّ فعل لحظيّ على ضغوط قصيرة الأجل»، بل هي عزَته إلى ضغوط المنصب وشعورها المتزايد بأن المغادرة الآن ستكون جيّدة لها ولحزبها ولأمّتها. لكن هذه الخطوة جاءت قبل نقاشات وخلافات داخل حزبها حول استراتيجيتها استخدام الانتخابات العامّة المقبلة كاستفتاء «بحكم الأمر الواقع» على استقلال الإقليم، والتي ستكون الموضوع المحوري لمؤتمر الحزب الشهر المقبل. وقد اضطرّت الوزيرة الأولى لتبنّي هذه الاستراتيجية، بعدما رفضت لندن مراراً السماح بإجراء استفتاء جديد على استقلال الإقليم. ووجّه رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، صفعة مدوّية للوزيرة عندما أَوقف العمل بقانون العبور الجنسي، في تدخُّل علني نادر للحكومة المركزيّة ضدّ تشريعات برلمانات الأقاليم الخاضعة. وكان الجدال العاصف الذي رافق تبنّي القانون المذكور، أضرّ بشعبية ستورجين، إذ صوّت العديد من نواب حزبها ضدّ التشريع الذي عارضه أيضاً عدد من الأعضاء البارزين داخل حكومتها نفسها، فيما سحبت جهات عديدة دعمها لها، بما فيها اتحادات الأقليّات المسلمة، وتجمّعات كاثوليكية، وأنصار الدفاع عن حقوق النساء. ويخشى بعض نواب «الحزب القومي» من أن تركيز الانتخابات على قضيّة واحدة، سيضرّ بالحزب في صناديق الاقتراع، وسيفقده الأكثرية التي يحتفظ بها في برلمان الإقليم منذ 15 عاماً. وفي هذا الإطار، تشير أحدث استطلاعات الرأي إلى أن الاسكتلنديين منقسمون بالتساوي حيال مسألة الاستقلال عن المملكة المتحدة؛ إذ قال الوزير الأول السابق، سالموند، الذي انشقّ عن «الحزب القومي» وأسّس، بعد خلاف حادّ مع ستورجين، حزب «ألبا» المعارض، إن الوزيرة غادرت منصبها «من دون استراتيجية واضحة للاستقلال»، فيما يتّهمها التيار الراديكالي داخل الحزب بأنّها فشلت ولم تَعُد لديها أيّ أوراق في مواجهة لندن، وإنْ كانت أصرّت، لدى إعلان استقالتها، على أنها ستتنحّى وبلادها في «المرحلة الأخيرة» من رحلة إنهاء اتحادها المستمرّ مع إنكلترا منذ 300 عام. وقالت: «أنا على قناعة أكيدة بأن خلفي، أيّاً كان، سيقود اسكتلندا إلى الاستقلال».
هاجس الاستقلال سيظلّ القضيّة الحاسمة في السياسة الإسكتلندية


وسيتعيّن على الوزير الأول المقبل مواجهة تحدّيات على مستويَين: داخل «القومي»، عبر السعي إلى إيجاد معادلة تُوازن بين التزام الحزب بالتغيير الدستوري القانوني السلمي لتحقيق الاستقلال، وتعطّش أعضائه الأكثر راديكالية لاتخاذ إجراءات حاسمة وعاجلة. وعلى مستوى الحكومة، لتنفيذ إصلاحات في القطاعات الأساسية لمواجهة ضغوط الطبقة العاملة التي قد تدعم الاستقلال، لكنّها تَعتبر حكومة القوميين سلطة تعبّر عن المصالح البرجوازية ولا تختلف كثيراً عن حكومة لندن. وقد رفضت الوزيرة المستقيلة تسمية خلف مفضّل لها، إلّا أن بورصة التكهنات في أدنبرة، عاصمة الإقليم، تذهب في اتجاه تسمية «الحزب القومي»، كيت فوربس، وزيرة المالية في حكومة الإقليم، كوزيرة أولى، وهي شخصية متدينة للغاية عارضت قانون العبور الجنسي الذي دعمته ستورجين، وكانت في إجازة أمومة أثناء التصويت عليه في البرلمان، ما جنّبها صداماً مباشراً مع رئيستها، بينما يقول آخرون إن أنجوس روبرتسون، وزير الدستور والزعيم السابق لكتلة «الحزب القومي الاسكتلندي» في مجلس العموم البريطاني، قد يكون المرشّح الأوفر حظاً، على رغم أن أسماء أخرى تتردّد في كواليس الحزب، ومنها: نائب ستورجين جون سويني، ووزير صحة الإقليم حمزة يوسف، ووزير العدل كيث براون، والزعيم الحالي لكتلة «الحزب القومي الاسكتلندي» في مجلس العموم ستيفن فلين. ويقول مراقبون إن الانقسامات داخل «الحزب القومي الإسكتلندي»، وغياب استراتيجية استقلال واضحة لديه، ستثير شهيّة الأحزاب التي تدعم استمرار الاتحاد مع إنكلترا، مثل حزبَي «المحافظين» و«العمل»، لتحسين مواقعها بعد طول تهميش. ويدفع «حزب العمل»، من جهته، في اتجاه إجراء انتخابات عامّة مبكرة في الإقليم، على إثر استقالة ستورجين، مستفيداً بالتوازي من الانخفاض الحادّ في بريطانيا عموماً لتأييد المحافظين، ما قد يساعده في الحصول على أغلبية على مستوى المملكة في الانتخابات العامة المقبلة (كانون الثاني 2024). ومن شأن التغييرات على مستوى قيادة «الحزب القومي الإسكتلندي» وخروج ستورجين من المعادلة فضلاً عن الانقسامات في داخله، أن تلقي مرحليّاً بظلال سلبيّة على قضيّة الانفصال عن لندن. لكن هاجس الاستقلال يظلّ القضيّة الحاسمة في السياسة الإسكتلندية، ومن المرجّح أن يبقى كذلك خلال العقد المقبل بغضّ النظر عن من يمسك بعصا القيادة.