لندن | كان المزاج على متن السفينة «يو إس إس ميسوري» احتفالياً، بحضور زعماء الولايات المتحدة وبريطانيا وأوستراليا، حيث استعاد كثيرون أصداء اجتماع كلّ من فرانكلين روزفلت وونستون تشرشل قبالة ساحل نيوفاوندلاند في آب 1941، للتوقيع على ميثاق «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، ووضْع رؤية مشتركة للنظام العالمي ما بعد الحرب. لكن الحقيقة هي أن لقاء القمّة (الاثنين) بين الرئيس الأميركي جو بايدن وضيفَيه، رئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك ورئيس وزراء أوستراليا أنتوني ألبانيز، للبحث في تفاصيل تنفيذ معاهدة «أوكوس» (AUKUS) بين الدول الثلاث، مثّل إيذاناً جديداً بإمكانية تدحرُج الصراع الروسي - الغربي الحالي، والذي ما زال يُخاض (عسكرياً) على الأراضي الأوكرانية وضمن قواعد السلاح التقليدي، بالتدحرج نحو حرب عالمية ثالثة محتّمة بين القوى النووية. وكشفت القمّة عن خطّة لإنشاء أسطول جديد من غوّاصات تعمل بالطاقة النووية، بهدف مواجهة نفوذ الصين في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. وتشمل الخطّة تزويد أوستراليا بثلاث غوّاصات أميركية من ذات الدفع النووي، والتي يقتصر تَوفّرها حالياً على الولايات المتحدة وبريطانيا، فيما سيعمل الحلفاء «الأنكلوساكسون» على إنشاء أسطول جديد من الغوّاصات الهجومية، يعتمد أحدث التقنيات، بالتشارك ما بين الدول الثلاث، وبما يشمل استخدام مفاعلات نووية تنتجها شركة «رولز رويس» البريطانية. وهذا الطراز من الغوّاصات قادر على العمل بمدى أوسع وبسرعة أكبر من الأسطول المعتمِد على محرّكات الديزل الذي تمتلكه أوستراليا حالياً، وهو سيمكّن البحرية الأوسترالية من توجيه ضربات عابرة للقارّات لأوّل مرّة. وبموجب الاتّفاق أيضاً، سينتقل جنود من البحرية الأوسترالية، في وقت ما من العام الحالي، إلى قواعد للغوّاصات النووية في الولايات المتحدة وبريطانيا لتلقّي التدريب، على أن تبدأ قاعدة «بيرت» (غرب أوستراليا) البحرية في استضافة الغوّاصات الأميركية والبريطانية التي تعمل بالطاقة النووية اعتباراً من عام 2027، قبل أن تتسلّم كانبيرا ثلاث غوّاصات من طراز «فيرجينيا» في أوائل عام 2030، مع الحق في شراء المزيد. وبحسب رئيس الوزراء الأوسترالي، فإن الخطّة - التي ستكلّف كانبيرا ما يصل إلى 368 مليار دولار أوسترالي (243 مليار دولار أميركي) على مدى 30 عاماً - تمثّل «أكبر استثمار في القدرة الدفاعية لأوستراليا في كلّ تاريخها». كذلك، تعهّدت الولايات المتحدة بتقديم 4.6 مليارات دولار أميركي من الأموال العامّة لتوسيع قدرة بناء الغوّاصات الأميركية، وتحسين صيانة غوّاصاتها الحالية التي تعمل بالطاقة النووية من طراز «فرجينيا».
من جهتها، انتقدت الصين، بشدّة، اتّفاق «أوكوس» المُوجَّه صراحة ضدّها، واتّهمت وزارة خارجيتها، الدول الثلاث، بـ«التمادي في السير في طريق الخطأ والخطر». وقال تشاو جيجيان، المتحدّث باسم الوزارة: «إن التعاون في مجال الغوّاصات النووية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوستراليا قوّض بشكل خطير السلام والاستقرار الإقليميَّين، وكثّف سباق التسلّح وأضعفَ الجهود الدولية لمنع الانتشار النووي. يجب على الدول الثلاث أن تتخلّى عن عقليّة المحصّلة الصفرية للحرب الباردة، والمنظور الجيوسياسي الضيّق». وكان «أوكوس»، الذي أعلِن في أيلول 2021 ويشمل إلى جانب التعاون في مجال الغوّاصات النووية، التنسيق بشأن الحرب السيبرانية والاستخبارات، موضِع انتقادات متكرّرة من بكين، علماً أن الدول «الأنكلوساكسونية» الثلاث، إضافة إلى نيوزيلندا والكيان العبري، أعضاء في تحالف خماسي عريق لتبادل المعلومات الاستخبارية يعود إلى أيام الحرب الباردة. لكن بايدن قال أمام ضيفَيه إن «أوكوس» يهدف إلى ما سمّاه «تعزيز السلام في المنطقة (المحيطَين الهادئ والهندي)»، موضحاً أن الغوّاصات موضوع الاتفاق «تعمل بالطاقة النووية لكنّها ليست مسلَّحة نووياً»، وبالتالي فإنها «لن تقوّض التزام أوستراليا المستمرّ بأن تكون دولة خالية من الأسلحة النووية». ورأى بايدن أن «هذه الشراكة الجديدة (أي أوكوس)، تُظهر مرّة أخرى كيف يمكن للديموقراطيات الغربية أن تُحقّق الأمن والازدهار، ليس فقط بالنسبة إلى دولنا، ولكن للعالم بأسره».
واشنطن على اقتناع أكيد بأن بكين هي أكبر تحدٍّ جيوسياسي وأمني تُواجهه


على أن «أوكوس»، وإنْ كان يرتقي بالقدرات العسكرية للأوستراليين، فإنه أيضاً تهديد كبير للعلاقات الاقتصادية لكانبيرا، التي تظلّ بكين أكبر شريك تجاري لها. وقد أثيرَ بالفعل الكثير من الجدل حول جدوى الاتفاق الحقيقية لأوستراليا، وتساءل البعض عمّا إذا كانت حكومتهم قد أدركت حقّاً المخاطرات والنفقات والوقت والمتطلّبات التكنولوجية للمشاركة في الحملة النووية ضدّ الصين، ولا سيما أن لدى الولايات المتحدة قواعد عسكرية في اليابان وكوريا الجنوبية أقرب بكثير إلى البرّ الرئيسي الصيني. وعلى الرغم من هذه المخاوف، يتمتّع ميثاق «أوكوس» بدعم حماسي من قِبَل «حزب العمال» (يسار الوسط) الحاكم في أوستراليا، تماماً مثل الليبراليين الذين كانوا قد تفاوضوا على الاتفاقية بداية، وادّعوا أن الغرض منها ليس شنّ الحروب، ولكن منْعها.
من جهته، قال رئيس الوزراء البريطاني إن «غزو روسيا (غير القانوني) لأوكرانيا، وصرامة الصين المتزايدة، كما السلوك المزعزع للاستقرار من قِبَل إيران وكوريا الشمالية، كلّها تهدّد بخلق عالم تسوده الفوضى والمخاطرات والانقسام». وكان سوناك قد تعهّد، عشيّة زيارته للولايات المتحدة، بزيادة الإنفاق الدفاعي لحكومته بنحو 5 مليارات جنيه استرليني (6 مليارات دولار أميركي) على مدى العامَين المقبلَين، لمواجهة تهديدات الدول المعادية، بما فيها استثمارات في تطوير الأسلحة النووية. وأكد للصحافيين أن «المملكة المتحدة ملتزمة اتّخاذ إجراءات سريعة وحاسمة» ضدّ أيّ تهديد من قِبَل «الحزب الشيوعي الصيني» تحديداً. كما أزاح النقاب عن وثيقة استراتيجية محدّثة لسياسة حكومة بلاده للشؤون الخارجيّة، وُصفت فيها الصين - تحت حُكم «الشيوعي» - بأنها «تحدٍّ منهجي». كذلك، أكد سوناك، أثناء زيارته الأميركية، أن بلاده «ستسعى إلى العمل بشكل جماعي مع الصين بشأن قضايا عالمية مِن مِثل تَغيّر المناخ، لكنها لن تتوانى عن مواجهتها عندما تُمثّل تهديداً لنوع النظام الدولي الذي نريد رؤيته، سواء من حيث الأمن أو القيم»، فيما أشارت الوثيقة المحدّثة إلى أن «تعميق علاقات موسكو مع كلّ من بكين وطهران، أصبح بمثابة المحرّك الرئيس لبيئة أمنية دولية متدهورة».
لكن، وبينما كان رئيس الوزراء البريطاني منتشياً بتتويجه حملته الدبلوماسية الدولية بقمّة كاليفورنيا، بعد نجاحه قبْلها في تجنُّب حرب تجارية مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك زيارته الجمعة الماضية إلى باريس، فإن وصْف الرئيس الأميركي له بأنه رجل «لديه منزل هنا في كاليفورنيا»، لم يكن بالضرورة موضع ارتياح من قِبَل فريق سوناك، الذي يواجه انتقادات داخلية شديدة بوصفه فاحش الثراء، ومنفصلاً بالكامل عن الهموم اليومية لأغلبية البريطانيين الذين يعيشون واحداً من أسوأ الكوابيس الاقتصادية في تاريخ البلاد. وجاءت ملاحظة بايدن بعد أيام من كشْف يوميّة «ذي غارديان» عن أن سوناك يرفع من سويّة شبكة الكهرباء في يوركشاير على نفقته الشخصية، لتوفير الطاقة اللازمة لتدفئة حمّام السباحة في قصره هناك، في حين تجد ملايين العائلات صعوبات متزايدة في دفْع فواتير تدفئة منازلها أثناء موسم البرد القارس.
ومهما يكن من أمر «أوكوس» في بريطانيا وأوستراليا الخاضعتَين بنيوياً وتاريخياً للرغبات الأميركية، فإن واشنطن على اقتناع أكيد بأن بكين هي أكبر تحدٍّ جيوسياسي وأمني تُواجهه - حتى قبل موسكو -، وتدرك أنها بحاجة إلى حلفاء إقليميين لمواجهة القوّة الصينية المتعاظمة، ولا سيّما في حال تَكرّس «حلف الأشرار» بين روسيا والصين وإيران.