لندن | لجأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى مادّة قانونية تخوّله تمرير التشريعات من دون العودة إلى البرلمان، وذلك بعدما فشلت جهوده في حشد الأصوات اللازمة لتمرير خطّة رفْع سنّ التقاعد، والتي لا تحظى بشعبية. ومن شأن خيار ماكرون «النووي» أن يأخذ البلاد نحو أزمة سياسية، لم تتحدَّد ملامحها بعد؛ إذ توعّدت أحزاب المعارضة بطرح الثقة في الحكومة، فيما تعهّدت النقابات العمّالية بالتصعيد، مع تفجُّر احتجاجات عفوية في العاصمة وغير مدينة أخرى، على نحو اضطرّت معه شرطة باريس إلى حظر التجمّعات في المواقع الرئيسة. لكن ماكرون لا يزال يراهن على تشتّت المعارضين في «الجمعية الوطنية»، وعلى تلاشي الاحتجاجات الشعبية مع مرور الوقت، ليعلن انتصاره في تحقيق واحد من أهمّ بنود مشروعه السياسي
اختار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن يمرّر خطّته لإصلاح نظام التقاعد التي يعارضها ثلاثة أرباع الفرنسيين، من دون التصويت عليها في «الجمعية الوطنية» (البرلمان)، وذلك من خلال تفعيل سلطة دستورية خاصّة تُعرف باسم «المادة 49.3». ويهدّد فرْض تشريع بالقوّة، بإدخال البلاد في أزمة دستورية حادّة، وتوسُّع نطاق الإضرابات العمّالية، وربّما ردود فعل عنيفة في الشارع. هذا «الخيار النووي» - كما وصفه مراقبون - الذي لجأ إليه ماكرون، الخميس الماضي، كان عمليّاً المخرج الوحيد المتبقّي أمامه لإنقاذ خطّته القاضية بزيادة سنّ التقاعد عامَين (من 62 إلى 64 عاماً)، وذلك بعدما فشلت رئيسة وزرائه، إليزابيث بورن، في حشْد دعْم المشرّعين في «الجمعية الوطنية». وراهن الرئيس الذي يسيطر حزبه على 250 مقعداً، على تأييد نواب «الحزب الجمهوري» اليميني المحافظ للوصول إلى تعداد الأصوات اللازم لإقرار مشروعه بالغالبية البسيطة (289 صوتاً)، لكن بعض الجمهوريين تمنّعوا، أو فرضوا شروطاً رفضتها الحكومة. 
ماكرون، وبخطوته الديكتاتورية التي اعتبرها حوالى 80% من الفرنسيين - وفق الاستطلاعات - «مستفزّة» و«غير مبرَّرة»، يضع مستقبل فترة رئاسته الثانية قيْد الاحتمالات، مع خطر نشوب أزمة دستورية عصيّة في البلاد، في حال نجحت محاولات أحزاب المعارضة لطرْح الثقة بحكومته (بدايةً من اليوم الإثنين)، أو توسّعت الاحتجاجات العامّة التي تخطّط لإطلاقها النقابات العمّالية، اعتباراً من الخميس المقبل، فضلاً عن إمكان تفجّر الاحتقان الشعبي المتراكم منذ ولاية ماكرون الأولى، على شكل أعمال عنف واضطرابات في الشوارع. غير أن مقرّبين من قصر الإليزيه، قالوا إن الرئيس يرى نفسه إصلاحيّاً ينفّذ مهمّة نبيلة لجعل اقتصاد البلاد أكثر تنافسيّة، وهو عازم على الصمود في وجه الضغوط حتى اللحظة الأخيرة، بل وقد تسفر المرحلة، في نهايتها، عن انتصار شخصي له، مع تحقُّق بند أساسي من برنامجه الاقتصادي، وأحد أهمّ تعهّداته الانتخابية. ويراهن ماكرون تالياً على سيناريو فشل المعارضة في حجب الثقة عن حكومة رئيسة وزرائه، وهو أمر تكرّر بالفعل عدّة مرات بسبب عجز الكتل النيابيّة المستقطبة بين اليمين واليسار على التوافق بصورة كافية للحصول على الغالبيّة، وكذلك على تلاشي الاحتجاجات العمّالية مع مرور الوقت. وعُلم في باريس أن الشرطة استدعت تعزيزات إضافية للتعامل مع التجمّعات التلقائية التي تعرّض بعضها، خلال الأيام الماضية، إلى قمع عنيف من قِبَل رجال الأمن.
بين الإثنين والخميس، ستشهد فرنسا أسبوعاً قاسياً على كلّ الصعد


وكان حزب «التجمُّع الوطني» (أقصى اليمين)، بزعامة مارين لوبن، ومجموعة أخرى من النواب من عدّة أحزاب يسارية معارِضة قد تقدّموا، الجمعة، باقتراحات لحجب الثقة عن الحكومة. وفي حال نجت حكومة بورن، فإن مشروع ماكرون سيصبح قانوناً، وسيتكرّس عجز البرلمان المشّتت أمام السلطات الرئاسية؛ ولكن إذا حُجبت الثقة، فسيتعيّن على وزراء ماكرون الاستقالة، وما يستتبع ذلك من سقوط قانون المعاشات التقاعدية. وعندها، سيضطرّ الرئيس لتشكيل حكومة جديدة لا ضمانة بقدرتها على الحصول على الثقة في «الجمعية الوطنية»، أو أنه سيختار حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة لا يمكن التكهُّن بنتائجها، وقد يضطر في النهاية لترك منصبه، أو قضاء ما تبقّى من ولايته من دون إنجاز الكثير. وتحظى أجندة ماكرون بدعم من مصالح الأعمال الكبرى الفرنسية وأصحاب رؤوس الأموال، والطبقة البرجوازية عموماً، وهو شخصيّة مرضي عليها من بيروقراطيي الاتحاد الأوروبي في بروكسل، كما في واشنطن. وقد ارتفعت أسهمه أميركيّاً، على رغم الخلافات حول قضايا اقتصادية، وذلك بعد خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي، وتردُّد الألمان النسبي في تنفيذ الأجندة في شأن أوكرانيا، ما جعل الرئيس الفرنسي بمثابة الناطق باسم الولايات المتحدة داخل البيت الأوروبي. 
ويرى فريق ماكرون أن إصلاحات الحدّ الأدنى لنظام الضمان الاجتماعي، والتي تتضمّن زيادة سنّ التقاعد بمقدار عامَين إضافيَّين ضروريّة للتخلُّص من العجز المتوقّع في صناديق المعاشات بحلول عام 2030، وحجر أساس لإنعاش قدرة فرنسا على المنافسة في الاقتصاد العالمي بعد عقود تمتّع فيها الفرنسيون بنظام رعاية سخي، وارتفعت معدلات أعمارهم، بينما مالت إنتاجيتهم إلى التراجع. وفي المقابل، يعارض ما يقرب من ثلاثة أرباع الفرنسيين رفْع سنّ التقاعد؛ إذ شارك الملايين من منسوبي الطبقتَين الوسطى والعاملة في احتجاجات سلميّة ومسيرات أسبوعية في جميع أنحاء البلاد. وترك عمّال النظافة العامّة المضربين هذا الأسبوع أكثر من سبعة آلاف طنّ من القمامة في شوارع باريس، وتعطّلت القطارات والرحلات الجوية، وخفّض العمّال في محطّات الطاقة النووية من إنتاج الكهرباء، وأعاق عمّال غاضبون لفترة وجيزة حركة المرور الصباحية، يوم الجمعة، على الطريق السريع الذي يدور حول باريس.
وتقول النقابات إن هذا الهجوم على دولة الرّفاه أيديولوجي، ويمسّ بشكل غير عادل بمكتسبات العمّال لا سيما النساء والمستخدمين في المهن القليلة الأجر، وأولئك الذين يبدأون العمل مبكراً من دون الذهاب إلى الجامعة أو يتركون العمل للعناية بعائلاتهم. وتعهّد ائتلاف من أكبر ثماني نقابات بمواصلة الاحتجاجات، حتى لو تمّ إسقاط مشروع قانون المعاشات التقاعدية. ونقلت الصحف عن نوّاب يساريين قناعتهم بأن «هنالك كثيراً من الغضب المتراكم لدى الفرنسيين والذي لن يختفي بمجرد انتهاء الجدل في شأن نظام التقاعد»، وقالوا إن أحزابهم ستسعى إلى تنظيم استفتاء عام حول مشروع ماكرون، وستطلب مراجعته من جانب المحكمة الدستورية. وبحسب الخبراء، فإن هذه الإجراءات التي يتحدّث عنها اليسار عديمة القيمة في ظلّ «المادة الدستورية 49.3» - التي تعكَّز عليها الرئيس لتمرير مشروعه -، وتعكس قناعة لدى المعارضة بصعوبة تحقيق الإجماع حول حجب الثقة عن الحكومة، ما يترك الكرة واقعيّاً في ملعب المواطنين الفرنسيين، الذين وحدهم الآن يمكن أن يهزّوا هيمنة الطبقة الحاكمة.
إذن، بين الإثنين (موعد التصويت على حجب الثقة) والخميس (موعد التظاهرة الرئيسة التي دعت إليها النقابات)، ستشهد فرنسا أسبوعاً قاسياً على كلّ الصعد، وانعكاسات طويلة الأمد لتبعاته على رفاه كل الفرنسيين، وستترقّب تطوّراته كثير من العواصم الأوروبية التي تواجه بدورها حالة تأزّم اقتصادي واجتماعي ضاعفت من تأثيراتها الحرب الاقتصادية الغربية المستمرّة ضدّ روسيا.