لندن | عندما تمّ، مساء الإثنين، الانتهاء من فرْز الأصوات في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) على اقتراح لحجب الثقة عن حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون التي تقودها رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، لم تكن ثمّة مفاجأة في فشَل المعارضة في إسقاط الحكومة - إذ كان ذاك أمراً مرجَّحاً بحكم تركيبة البرلمان -، لكن ما بدا لافتاً هو ضيق الهامش الذي نجتْ بفضله بورن، ومعها مشروع القانون المثير للجدل حول إصلاح نظام التقاعد؛ إذ لم يتجاوز 9 أصوات، بعدما تمرّد 19 نائباً عن «الحزب الجمهوري» - أي ثُلُث كتلة الحزب اليميني المتحالف مع ماكرون -، وأيّدوا دعوة المعارضة إلى إسقاط الحكومة. وجاء هذا ليكون بمثابة دليل إضافي على العزلة المتزايدة التي يجد ماكرون نفسه يَغرق فيها، سواء على مستوى النُّخبة السياسية، أو في الشارع. وصوّت 278 نائباً لصالح اقتراح حجْب الثقة، والذي كان بحاجة إلى 287 صوتاً لتمريره، فيما فشل أيضاً اقتراح ثانٍ للغاية نفسها، قدّمه «حزب التجمّع الوطني» - أقصى اليمين - الذي تقوده مارين لوبان، بعدما دعَمه 94 نائباً فقط، وتجنَّب نواب اليسار التعاون عليه مع خصمهم الإيديولوجي. ولم يكد يائيل براون بيفيت، رئيس البرلمان، يعلن نتيجة التصويت، حتى انفجرت صيحات الاستهجان في الغرفة، وسارع نوّاب حزب «فرنسا التي لا تنحني» اليساري إلى رفْع لافتات كُتب عليها «64 عاماً. بالتأكيد لا»، و«إلى اللقاء في الشارع»، فيما هرع العديد منهم إلى الطابق الأرضي ليعلنوا أمام الصحافيين أنهم سيواصلون النضال ضدّ مشروع ماكرون الذي يرفع سنّ التقاعد عامَين (إلى 64 من 62 حالياً) ويُعارضه ثلاثة أرباع الفرنسيين، ودعوا رئيسة الوزراء إلى الاستقالة، ووصفوا الوضع في البلاد بأنه «أزمة سياسية خانقة صنعها ماكرون بنفسه». ونقلت الصحف عن أوليفييه فور، زعيم «الحزب الاشتراكي» المُعارض، قوله «إن ماكرون لا يمكنه الاستمرار في التظاهر كما لو أن هذا التصويت الحادّ لم يَحدث»، مشيراً إلى أن ماكرون «إذا أراد أن يتنفّس بعض الأوكسيجين خلال ما تبقّى من ولايته، فليس لديه من خيار سوى التراجع عن مشروع القانون وإلغائه».
ويمثّل مشروع إصلاح نظام التقاعد الفرنسي أحد أعمدة سياسة ماكرون الاقتصادية منذ بداية ولايته الأولى في عام 2017، لكنّ الطبقة الوسطى الحضريّة التقت مع العمّال في رفْض تعديلات تراها الحكومة ضروريّة لتجنّب الاقتراض من المال العام من أجل تغطية العجز المتوقَّع في صناديق المعاشات مع حلول عام 2030، بسبب ازدياد معدّلات الأعمار. ومنذ طرْح مشروع القانون للتداول مع بداية العام الحالي، قادت النقابات العمّالية مسيرات أسبوعية استقطبت ملايين الفرنسيين، ونفّذت إضرابات جزئية في العديد من قطاعات الخدمات، بينما اندلعت أحياناً أعمال عنف محدودة في بعض المواقع عندما حاولت قوى الأمن تفريق الاحتجاجات بالقوّة. وتقول النقابات إن مشروع ماكرون هذا هجوم إيديولوجي على دولة الرفاه الفرنسية، وأمركة نيو-ليبرالية لاقتصاد البلاد ونظامها الاجتماعي، ويمسّ بشكل غير عادل بمكتسبات العمّال، ولا سيّما النساء، والمستخدَمين في المهن القليلة الأجر، وأولئك الذين يبدأون العمل مبكراً في شبابهم، أو يتركون العمل للعناية بأولادهم أو عائلاتهم أو بسبب البطالة. ويجزم قادة النقابات بأن فرْض ضرائب على أصحاب رؤوس الأموال في البلاد وأرباح الشركات الكبرى كفيل بتغطية كلّ عجْز محتمَل في مداخيل صناديق المعاشات. لكنّ فريق ماكرون يرى أن المعارضين يصمّون آذانهم عن الواقع، ويرفضون رؤية عجز محتّم آتٍ في مداخيل تلك الصناديق، وعدم قدرة الميزانيات العامّة على تغطية ذلك في ظلّ الارتفاع الحادّ في المديونية والضغوط التضخّمية الناجمة عن الحرب الاقتصادية على روسيا - والتي تشنّها دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة في إطار المواجهة الدائرة في أوكرانيا-.
من الجليّ أن نظام ماكرون لا يعبأ كثيراً بالتحرّكات القانونية لأحزاب المعارضة أو التظاهرات السلمية التي تُنظّمها النقابات


وفشلت الحكومة، بعد أسابيع من الجدل العاصف، في الحصول على تأييد كافٍ لضمان تمرير مشروع القانون عبر القنوات التشريعية الاعتيادية، ما حدا بماكرون إلى استخدام صلاحية دستورية استثنائية - تُعرف باسم «المادّة 49.3» من الدستور – تتيح له إصدار التشريعات بمراسيم رئاسية من دون المرور بالجمعية الوطنية. وقد أثار ذلك غضباً واسعاً ضدّ النزعة «الديكتاتورية» عند ماكرون، فيما تساءل سياسيون ومواطنون عاديون عن جدوى العملية الديموقراطية بمجملها إذا كان يمكن للرئيس في النهاية المضيّ قُدُماً في سَنّ قوانين لا ترضاها الأمّة - حتى ولو كان هذا الإجراء قانونياً بموجب دستور الجمهورية الخامسة والذي قصد شارل ديغول منه تقوية منصب الرئيس في هيكلية السلطات -. وهذه هي المرّة الحادية عشرة في أقلّ من عام التي تلجأ فيها حكومة ماكرون إلى «المادّة 49.3» لتمرير التشريعات، وهو أمر غير مسبوق. وتشير استطلاعات متتابعة للرأي إلى أن ثُلُثي الفرنسيين يعارضون مشروع ماكرون لإصلاح نظام التقاعد، وأن 80% منهم غير راضين عن الطريقة التي استخدمها الرئيس لتمرير المشروع، وحوالي 60% منهم يعتقدون بفشل العملية الديموقراطية، في حين تَراجع تأييد ماكرون إلى أقلّ من 28%، مقترباً من أدنى مستوياته في ذروة حَراك «السترات الصفر» خلال ولاية الرئيس الأولى.
ويُراهن ماكرون، الذي تحظى أجندته النيوليبرالية التوجّهات بدعم مصالح الأعمال الكبرى الفرنسية والأثرياء والطبقة البرجوازية عموماً، الآن، على يأس معارضيه وتلاشي الاحتجاجات بمرور الوقت. لكنّ مشرّعين صوّتوا لحجب الثقة عن الحكومة يؤكّدون أنهم سيستمرّون في البحث عن سُبل قانونية لإسقاط القانون عبر الطعن به لدى المجلس الدستوري أو الدعوة إلى إجراء استفتاء عام حوله، وهو ما يبدو صعب التحقّق، فضلاً عن أنه يستغرق وقتاً طويلاً. ويواجه قادة النقابات ضغوطاً شديدة من قواعدهم الغاضبة، قد تَحملهم على الاتّجاه إلى التصعيد في جميع أنحاء الجمهورية خلال الأسابيع المقبلة. وكان ائتلاف يضمّ ثماني نقابات عمّالية قد تعهَّد بمواصلة الاحتجاجات ضدّ سياسات ماكرون حتى لو تمّ إسقاط إصلاحاته لقانون التقاعد. وجاء هذا في وقت نقلت فيه التلفزيونات صوراً لأكوام القمامة المتراكمة في أحياء باريس الثريّة حيث تابع عمّال النظافة إضرابهم، كما استمرّ عمّال محطّات تكرير الوقود في إضرابات جزئيّة تسبّبت بانقطاع الإمدادات عن بعض المحطّات في العاصمة وخارجها. كذلك، ستقود النقابات، يوم الخميس المقبل، تظاهرات مركزية في باريس ومدن أخرى، تزامناً مع إضراب واسع سيكون بمثابة ردّ الشارع على انتصار ماكرون، بينما تستمرّ مجموعات غاضبة في تنظيم الاحتجاجات يومياً، وتصطدم بقوى الأمن. واعتقلت السلطات، خلال أقلّ من أسبوع، ما يكاد يصل إلى ألفٍ من المتظاهرين، الأمر الذي حدا بلوبان إلى القول إن «الحكومة كَمَن يلعب بأعواد الكبريت في محطّة وقود».
ومن الجليّ أن نظام ماكرون لا يعبأ كثيراً بالتحرّكات القانونية لأحزاب المعارضة أو التظاهرات السلمية التي تُنظّمها النقابات، وهو إثر نفاذ قانون الإصلاح، لن يمانع في استمرار الصخب لبعض الوقت. لكنّ الخشية تبْقى من توسُّع الاضطرابات الشعبية الفوضوية الطابع، والتي ستجد فيها فئاتٌ عديدة من المتضرّرين والمهمَّشين بسبب السياسات الرأسمالية الجامحة، نافذة للتعبير عن مظالمها، بعدما أغلقَ ماكرون - «ديكتاتور فرنسا ونابليونها الأحدث» كما يصفه البعض - كلّ هوامش الاعتراض الديموقراطي والسياسي أمامها.