لا يبدو أن الولايات المتحدة وإسرائيل فقدتا، في هذه المرحلة، القدرة على فرملة السلبيّات الناشئة من التباينات في ما بينهما، على نحو قد يتسبّب بأزمة لا يمكن احتواؤها. ومع ذلك، تتكاثر المؤشّرات إلى إمكانية تولُّد أزمة كهذه، لم تَعُد مجرّد فرضية خيالية أو من قَبيل الأمنيات، في حال استمرّت الحكومة الحالية في تل أبيب في مواقفها ومشاريعها المتطرّفة والفاشية، والتي من شأنها إلحاق أضرار بالمصالح الأميركية. ولعلّ من بين تلك المؤشّرات خروج الانتقادات الأميركية لإسرائيل من الغرف المغلَقة إلى العلن، في صورة استدعاء للسفير الإسرائيلي في واشنطن من قِبَل وزارة الخارجية الأميركية بهدف «التحذير والتوبيخ»، وأيضاً ما صدر من مواقف مباشرة عن مسؤولين أميركيين من الصفّ الأوّل، تنتقد القيادة الإسرائيلية وتُحذّرها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وإذ تؤشّر هذه «العلنية» إلى أن «التمنّيات والنصائح» عبر القنوات الخاصة لم تؤتِ أُكُلها، فهي تنمّ عن حاجة ملحّة لدى واشنطن لخرق إحدى أهمّ القواعد التي تَحكم علاقاتها بتل أبيب، وهي الانتقاد بصمت، بعدما أضحت الممارسات الإسرائيلية مصدر حرج للأميركيين دولياً وإقليمياً.سبق للولايات المتحدة أن انتقدت إسرائيل في العلن خلال العقود الماضية، إلّا أن انتقاداتها في السابق، على النقيض منها حالياً، كانت تتعلّق بخلاف «نُقطوي» على موضوع محدّد تتباين مصلحتا الطرفَين إزاءه، من دون أن يمسّ بصِلتهما الاستراتيجية. ففي عامَي 1974 و1975، لدى العمل على الاتّفاقية المؤقّتة بين إسرائيل ومصر برعاية أميركية بعد حرب تشرين عام 1973، جرى الحديث عن «إعادة تقييم» للعلاقات الأميركية، فيما وجّهت إدارة الرئيس جيرالد فورد، والتي كان مسؤولاً عن السياسة الخارجية فيها، هنري كيسنجر، تهديدات صريحة إلى إسرائيل بعدما رفضت الأخيرة الصيغة التي طرحها كيسنجر، لتؤول الأمور إلى رضوخ إسرائيلي في نهاية المطاف. الآن، لم تصل الأزمة إلى ذلك الحدّ، وإن كان وصولها إليها محتمَلاً، إلّا أن ما يميّزها أنها ليست مرتبطة بخلاف «نُقطوي»، تُمكن على إثر تسويته إعادة الأمور إلى نِصابها، بل هي نتيجة تآكُل نسبي متنامٍ في العلاقات، جاءت الخلافات الأخيرة لتزيده سوءاً، ولتدفع الأميركيين إلى تظهيره علناً. ولعلّ ممّا يضاعف «وجع الرأس» الأميركي هذه المرّة، أنه يأتي في مرحلة حرجة لا تريد الولايات المتحدة الانشغال فيها عن تحدّيات استراتيجية تُواجهها عالمياً، على رأسها التهديد الروسي على المديَين القصير والمتوسّط، والتهديد الصيني على المديَين المتوسط والبعيد. ومن هنا، تسعى واشنطن إلى إنهاء أيّ شاغل ثانوي استباقياً أو وقائياً، قبل أن يتسبّب بتصعيد يحدّ من تركيزها على المهمّات الكبرى. وفي ما يتّصل بالشاغل الإسرائيلي حالياً، يمكن تسجيل الآتي:
- تتجنّب الإدارة الأميركية دعوة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، ليكون رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي الأوّل من بين آخر 13 رئيساً للحكومة في دولة الاحتلال، لا يتلقّى دعوة لزيارة الولايات المتحدة خلال شهرَين من تولّيه المنصب، علماً أن هذه الزيارة دائماً ما نُظر إليها على أنها «تتويج غير رسمي».
ما يحدث في إسرائيل ليس عثرة أو محطّة في طريق الكيان، بل هو مفترق طرق يمكن أن يؤدّي إلى تردّي العلاقة مع أميركا


- تَكثر المواقف الأميركية السلبية من الحكومة الإسرائيلية، نقداً وتعبيراً عن استياء وخيبة أمل وإسداءً لتمنّيات ونصائح، وصولاً إلى حدّ التدخّل في الشؤون الداخلية للكيان العبري، بشكل فظّ ومباشر وعلني. ومن بين أوضح تجلّيات ذلك التدخّل، الاتّصال الهاتفي بين الرئيس الأميركي جو بايدن ونتنياهو، بعد قطيعة طويلة نسبياً، على رغم أن روايتَي الجانبَين لِما جرى خلال الاتّصال بدتا مختلفتَين، وعبّرتا عن استمرار التباينات، إذ تحدّثت إسرائيل الرسمية عن نقاش حول مواجهة إيران، وتحديداً «البرنامج النووي الإيراني وسُبل إيقافه»، في حين أعلنت الولايات المتحدة أن رئيسها شدّد على ضرورة وقْف مسار «الإصلاحات» في النظام القضائي الإسرائيلي، وأعرب عن قلقه من «التخلّي عن الديموقراطية والقِيم المشتركة» بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
- تَنظر واشنطن، بشكل شبه جامع، إلى أن التغييرات المراد إجراؤها في النظام الإسرائيلي، ستؤدّي في النتيجة إلى أوضاع لا يمكن جسْرها أو إصلاحها لاحقاً، ومن شأنها التسبّب بتصعيد غير مسبوق و«خربطة» للتموضعات في الإقليم.
- الواضح، بالنسبة إلى الولايات المتحدة والمعارضة الإسرائيلية، أن التوجّه السائد لدى الفاشية الجديدة في تل أبيب، هو خرق المحظور والعمل على تسلّم السلطة بشكل مطلق، ما يؤدّي بالتبعية إلى «تزاوُج» بين الشؤون الداخلية لإسرائيل والوضع القائم في المنطقة، إذ إن أجندة هذا التيّار لا تقتصر على فرْض الإرادة على المختلفين من اليهود فحسب، وإنّما تشمل التنكيل بالفلسطينيين والاحتراب الإقليمي، الأمر الذي يعني مزيداً من الإضرار بالمصالح الأميركية.
- على هذه الخلفية، تُوقَّع العرائض في مجلسَي الشيوخ والنواب الأميركيَّيْن، لحثّ بايدن على الضغط على الحكومة الإسرائيلية ومنْعها من السير قُدُماً في «إصلاحاتها». واللافت أن مَن يقودون الحملات ضدّ إسرائيل، ويُعدّون الأكثر شراسة في انتقادها، هم اليهود الأميركيون، الذين تطاولهم أيضاً الأجندة الدينية الفاشية، من خلال اعتبارهم «يهوداً غير يهود».
- على رغم أن الانتقادات الأميركية لإسرائيل لا تزال إلى الآن «بلا أسنان»، إلّا أنها تتيح لأيّ مراقب أن يستشرف الأسوأ في حال لم تتراجع تل أبيب عن مسارها، الذي لم يَعُد متعلّقاً بأشخاص تولّوا مناصب مسؤولة، بل بشريحة كبيرة من الإسرائيليين بات أولئك الأشخاص ممثّلين لهم ومعبّرين عنهم. ومن هنا، فإن توقّف مشروعهم لا يعني سقوطه، وإنّما اندفاعهم إلى الإعداد له بقوّة أكبر، في المستقبل المنظور أو المتوسط.
بالنتيجة، ما يحدث في إسرائيل ليس عثرة أو محطّة في طريق الكيان، بل هو مفترق طرق يمكن أن يؤدّي إلى تردّي العلاقة مع أميركا، من دون أن يتّضح حجم هذا التردّي المنظور. وحتى لو جرت معالجة الأزمة موضعياً ومرحلياً، فإن الفاشيين لن يتوانوا عن الإعداد لمواجهة جديدة في المستقبل، من شأنها مرّة أخرى إيذاء المصالح الأميركية، ما يعني، بالنتيجة، أن الصِدام قد يكون محتوماً.