في عالم السياسة، قد لا تلعب المشتركات، دائماً، دورها في تعزيز مناخات التقارب بين طرفَين متنازعين، أو أكثر. هذا هو واقع العلاقات الباكستانية - الأفغانية اليوم، حيث تبدو في أسوأ حالاتها منذ عقود، على رغم كثرة نقاط التقاطع الإثني، والثقافي - الديني، والسياسي، والتي تحوّلت، للمفارقة، إلى عناوين خلافية أكثر ممّا كانت عليه في أيّ وقت مضى. وإذا كانت عودة موجة التفجيرات إلى الداخل الباكستاني مرتبطة باستعادة الجماعات المتطرّفة، وفي طليعتها تنظيم «طالبان باكستان»، نشاطها، انطلاقاً من أراضي الجارة أفغانستان، في فترة ما بعد انسحاب القوّات الأميركية، فقد أنبأ المشهد الدموي الجديد، في خلال الأشهر الأخيرة، بإمكانية تجدُّد جولات القتال بين التنظيم المتطرّف، وحكومة إسلام آباد، على نحوِ ما حدث قبل عقْد من الزمان، حين دشّنت الأخيرة، في عام 2014، حملة عسكرية لوضع حدّ لنشاط الأوّل، ومحاصرة انتشار عناصره في منطقة القبائل، ولا سيما في وزيرستان، الواقعة على الحدود بين البلدَين. وفي أعقاب نجاح باكستان في إبعاد خطر المتطرّفين عن تلك المنطقة، واضطرار العديد من قياداتهم مذّاك إلى الانتقال سواء في اتّجاه عدد من المدن الباكستانية، ولا سيما كراتشي، التي تحوّلت إلى موطئ قدم جديد للتنظيم، أو باتّجاه الأراضي الأفغانية، يُراهن «طالبان باكستان»، اليوم، على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإنْ بصورة معكوسة، عبر استغلال نجاحه في تكريس حضور ميداني موازٍ له في أفغانستان، للانتقام من إسلام آباد على خلفيّة مشاركتها في دعْم «الحرب الأميركية على الإرهاب» منذ عام 2001. وبحسب «المعهد الباكستاني لدراسات السلام»، فقد شهدت البلاد ارتفاع عدد الاعتداءات الإرهابية بنسبة 51%، خلال العام الأوّل من تولّي «طالبان» سدّة الحكم، أي خلال الفترة الممتدّة ما بين 15 آب 2021 و14 آب 2022. وحتى في داخل أفغانستان نفسها، سقط في الفترة نفسها أكثر من ألفَي قتيل في ظلّ حالة من انعدام الاستقرار الأمني هناك.
عودة إلى دوّامة العنف
في أحدث تطوُّر، اندلعت اشتباكات حدودية بين القوّات الباكستانية وعناصر متطرّفين، أواسط الشهر الحالي، إثر غارة على مَخبأٍ مُشتبهٍ به لمُقاتلي تنظيم «طالبان باكستان» في جنوب وزيرستان. وكان التنظيم كثّف، منذ مطلع العام الجاري، استهدافه لعناصر الشرطة؛ إذ فجّر أحد انتحارييه، في الثاني من كانون الثاني الماضي، مسجداً داخل مقرّ الجهاز في مدينة بيشاور، الواقعة في الشمال الغربي للبلاد، في هجوم هو الأعنف منذ سنوات، أسفر عن مقتل وجرْح المئات، قبل أن يتبنّى هجوماً آخر بعبوة ناسفة في منطقة خوزدار، الواقعة في محافظة بلوشستان في الجنوب الغربي، أواخر شباط. وفي الشهر نفسه، استهدف ثلاثة مسلّحين مجمّعاً تابعاً للشرطة في أحد الأحياء الأكثر تحصيناً في مدينة كراتشي الساحلية، حيث يقيم العديد من كبار ضبّاط قوّات الأمن الباكستانيين، الأمر الذي أسفر عن مقتل ما لا يقلّ عن أربعة أشخاص. والجدير ذكره، هنا، أن الهجوم على كراتشي، إحدى أكبر المدن الباكستانية، ومركز الثقل الاقتصادي للبلاد، تَخلّله تبادُل إطلاق النار لساعات قبل حسْم الموقف ومقتل المهاجمين الثلاثة، في ما عكس تطوّراً في تكتيكات «طالبان باكستان». ومن منظور الباحثة في «معهد بروكينغز للأبحاث»، مديحة أفضال، فإن اضطراب المشهد الأمني في باكستان «يُعدّ بمثابة تذكير حيّ بحالة انعدام الأمن والعنف اللذَين اجتاحا باكستان قبل زُهاء عقد من الزمن». ووفق دراسات غربية بشأن حصيلة تلك الحرب، فقد بلغ عدد قتلى الأمن الباكستاني منذ عام 2000، في تفجيرات إرهابية، أكثر من 8000، في حين ناهزت الخسائر الاقتصادية للبلاد خلال الحقبة نفسها 123 مليار دولار.

«طالبان أفغانستان» - باكستان: غرام وانتقام!
على ما يبدو، فإن استبشار رئيس الوزراء الباكستاني السابق، عمران خان، بانسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان، والذي اعتبره مؤشّراً إلى أن الشعب الأفغاني «كسَر سلاسل العبودية»، لم يكن في محلّه تماماً، إذ على رغم العلاقات الوثيقة تاريخياً بين حركة «طالبان» الأفغانية، وداعميها داخل أجهزة المخابرات والحكومات المتعاقبة في باكستان، حين مضت الأخيرة على مدى عقود في «لعبتها المزدوجة» بين دعم ما يُسمّى «شبكة حقاني» التابعة للحركة، من ناحية، والوقوف في صفّ «حلف شمال الأطلسي» في حملته ضدّها منذ عام 2001، من ناحية أخرى، لم تُوفَّق إسلام آباد في تقديراتها بأن الحُكم الجديد في كابول سيكون حليفاً مخلصاً لها. وقد بلغ التوتّر بينهما أوجه بعد تعرّض سفارة باكستان في كابول لتفجير قبل نحو ثلاثة أشهر، غادر على إثره السفير الباكستاني إلى بلاده، وهو ما أعقبتْه مناوشات حدودية. ثمّ عاد التوتّر واحتدم أكثر بعد تصريحات لوزير الخارجية الباكستاني، بيلاوال بوتو زرداري، دعا فيها «طالبان» الأفغانية إلى أن «تفي بوعودها بشأن نبذ الإرهاب»، مستنكراً اتّخاذ «جماعات إرهابية» من أفغانستان مقرّاً لها. وفي حديث على هامش «مؤتمر ميونخ للأمن»، ألمح زرداري إلى عدم تجاوْب حكومة كابول الجديدة مع مطالب بلاده لوضع حدّ لنشاط تلك الجماعات.
هذا الانزعاج الباكستاني المستجدّ، تردّدت أصداؤه داخل المؤسّسة الأمنية المعروفة بقربها من الحركة؛ إذ اعتبر مسؤولون استخباريون باكستانيون، أخيراً، أن «شبكة حقاني» و«طالبان باكستان» هما «وجهان لعملة واحدة»، في إشارة إلى مخاوف ممّا يحمله هذا التحالف القائم على تزاوج بين «العقيدة الوهابية المتطرّفة» للأولى، و«الأجندة الانفصالية القبَلية (البشتونية)» للثانية، من مخاطر على وحدة باكستان كدولة اتّحادية. على أن التساهل الرسمي حيال التنظيمات «الجهادية»، وغضّ الطرف عن انتشار المدارس الدينية ذات المرجعية الوهابية داخل عدد من المدن الباكستانية، ضمن أجندة جيوسياسية مرتبطة بالصراع مع نيودلهي، كرّسا تعاطفاً شعبياً مع تلك التنظيمات والمدارس، بشكل خاص في المناطق التي تقطنها غالبية من قبائل البشتون، التي تنحدر منها العناصر «الطالبانية». ومع الوقت، خرج من «قمقم» المقاربة الأمنية الباكستانية، القائمة على التمييز بين «الإرهابي الطيّب» و«الإرهابي الشرّير» خلال الحرب الأفغانية، مشروع إقامة «إمارة إسلامية» في شبه القارة الهندية، أو «غزوة الهند» وفق الأدبيّات «الجهادية».
النُّخبة السياسية في باكستان تبدو غارقة في خلافاتها التي حرفت أنظارها عن الهَمّ الأمني


من جهتها، لم تتعاون حركة «طالبان» الأفغانية، منذ تسلّمها سدّة الحكم، مع إسلام آباد في ملفّات عدّة، أبرزها ملفّ ترسيم الحدود، إضافة إلى ضبْط نشاط المسلّحين المتطرّفين على أراضيها، وفي طليعتهم عناصر تنظيمَي «داعش - فرع خراسان»، و«طالبان باكستان». ووفق أحدث التقديرات، يزيد عدد هؤلاء المقاتلين، ممّن يتشاطرون الرغبة في تحدّي القوّات الباكستانية، وإضعاف معنويّات مقاتليها، تمهيداً لتكريس سيطرتهم على المنطقة الحدودية، على 6000 مقاتل، من بينهم ما يقارب 4000 من «طالبان باكستان» يتمركزون هناك. ومع تمسّك كابول برفضها الاعتراف بـ«خطّ دورند»، المفضّل باكستانياً كخطّ حدود نهائي بين البلدَين، فضلاً عن رفْضها التعاون مع إسلام آباد لكبح جماح «طالبان باكستان» لأسباب عدّة من ضمنها الخوف من حدوث انشقاقات في صفوفها، يَكثر الحديث عن بروز أجنحة داخل «طالبان» الأفغانية أقلّ خضوعاً لتأثير المؤسّستَين العسكرية والسياسية في باكستان، لحساب دول أخرى، في طليعتها قطر. وبدلاً من الاستجابة لمطالب «الحليف القديم» المُشار إليها، اكتفت الحركة بأداء دور الوساطة بين إسلام آباد و«طالبان باكستان»، الذي يتّسق إيديولوجياً وإثنياً مع نسخته الأفغانية، وهو ما أسفر عن اتّفاق لوقف إطلاق النار في حزيران الماضي، سرعان ما سقط بعد نحو خمسة أشهر بإعلان التنظيم المتشدّد عزمه استئناف هجماته في عموم باكستان، واتّهامه إسلام آباد باغتيال أحد قادته الكبار، المدعو عمر الخراساني، بانفجار شرقيّ أفغانستان.

الوضع الأمني في قلب السجال السياسي
وفق تقديرات بعض المحلّلين، فإن الخصم اللدود لإسلام آباد استغلّ المفاوضات بينه وبين حكومة عمران خان السابقة، من أجل إعادة تنظيم صفوفه، وسط تقارير بشأن عودة العديد من مُقاتليه من الداخل الأفغاني إلى معاقلهم السابقة، ولا سيما في بيشاور، إضافة إلى وادي سوات، وعدد من المناطق الحدودية. وفي ظلّ تزايد نسبة تعرّض قطاعات معينة من المجتمع المحلّي في تلك المناطق، وبخاصة رجال الأعمال وحتى النوّاب، لتهديدات أمنية وعمليات ابتزاز مالية من عناصر التنظيم المتطرّف، خرج الآلاف في مدينة سوات في تظاهرات احتجاجية واسعة أواخر عام 2022 للتنديد بحالة الفلتان الأمني، ما فاقم من حجم الضغوطات على الحكومة في إسلام آباد، المتفاقمة أصلاً بسبب الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعصف بالبلاد. كذلك، خرجت تظاهرات مشابهة في مدن باكستانية أخرى في الآونة الأخيرة، كوزيرستان، وبيشاور، المعروفة تاريخياً كبيئة حاضنة لـ«طالبان باكستان». وفي هذا الإطار، يقول السناتور الباكستاني السابق، وهو أحد قياديّي «الحركة الوطنية الديموقراطية»، التي ينتمي عناصرها إلى قبائل البشتون، إن «العديد من سكّان المناطق، ولا سيما ذات الغالبية من البشتون، تعتريهم حالة من الاستياء الشديد حالياً من تنظيم طالبان باكستان بسبب الاضطرابات (الأمنية) التي بات يتسبّب بها»، مشيراً إلى «نشوء مستوى جديد من الوعي السياسي فيها، لم تَعهْده قطّ من قَبل».
وعلى خلفية تكاثُر انتقاد قيادات «الحركة الوطنية» للحكومة، وأداء المؤسّسة العسكرية تجاه التنظيمات المتطرّفة، جرى اعتقال العديد منهم، فيما الحالة الاعتراضية المستجدّة التي تحدّثوا عنها لم تَعُد، في الواقع، تقتصر على «المجتمع البشتوني» حصراً، بل أصبحت تمتدّ إلى مسؤولين سابقين، إذ عبّر المستشار السياسي الخاص برئيس الوزراء الباكستاني السابق، رؤوف حسن، عن شيء من الندم الممزوج بالخيبة حيال ما أبدتْه حكومة عمران خان من حُسن نيّة تجاه تنظيم «طالبان باكستان»، حين تفاوضت معه، وأفرجت عن قياداته في السجون، كاشفاً أن خان كان يأمل بالاستفادة من الديناميات الإقليمية المتغيّرة بعد سيطرة «طالبان» على كابول، لتجاوز عقود من الوضع الأمني الهشّ، مستدركاً بأنه «من الواضح أن هذا لم يَحدث». ورأى حسن أن المفاوضات أكسبت «طالبان باكستان» مزيداً من القوّة، وأعطتْه شرعية مجانية، بالتوازي مع الفشل في انتزاع وعد من «طالبان أفغانستان» بكبح نشاطه. على أن اللافت أن «حالة الغضب» على حكومة شهباز شريف وعجزها عن معالجة الاضطراب الأمني، تغلغلت حتى في أوساط الشرطة الباكستانية؛ ففي أعقاب الهجوم الأخير على بيشاور، والذي راح ضحيّته نحو مئة قتيل من بينهم 20 ضابطاً، نظّم عدد من أفراد الشرطة تظاهرات واسعة في المدينة، احتجاجاً على عدم تزويدهم بالمعدّات العسكرية اللازمة للتصدّي للعناصر الإرهابيين، على عكْس الجيش الذي تتوفّر له ميزانية أكبر، وأسلحة نوعية أكثر للقيام بهذا الدور. وعلى مدى الأشهر الأخيرة، تحوّل الملفّ الأمني المتردّي، مستفيداً من بيئة خصبة لأجندات الجماعات المتطرّفة، إلى مادة سجالية بين حكومة شهباز شريف، والمعارض السياسي عمران خان، على خلفيّة اتّهام الأولى الأخير بغضّ الطرف عن خطر تلك الجماعات خلال فترة ولايته، في حين يصرّ هو على تحميلها مسؤولية تنامي ذلك الخطر، متّهماً إيّاها بالتسبّب بالفوضى وغياب الانتظام العام وحُكم القانون.
ومهما يكن من أمر، فإن النُّخبة السياسية في باكستان تبدو غارقة في خلافاتها التي حرفت أنظارها عن الهَمّ الأمني، في حين تَظهر المؤسّسة العسكرية أمام خيارَين: إمّا الخوض في حرب مكلفة بشرياً ومالياً ضدّ تنظيم «طالبان باكستان» لا تطيقها البلاد حالياً، أو البقاء في حالة من «الأخذ والردّ» الأمني والميداني بين الطرفَين، مع ما يعنيه ذلك من توقّْع المزيد من الهجمات الإرهابية مستقبلاً من قِبَل التنظيم، وبالتالي استمرار توهين السمعة الاستثمارية لباكستان بصورة أكبر. ومن هذا المنطلق، تُشدّد مجلّة «فورين بوليسي» على أنه يتعيّن على القادة السياسيين في إسلام آباد إنهاء سنوات من عدم اليقين بشأن سياستهم على صعيد «مكافحة الإرهاب»، واتّخاذ قرار وطني واضح وجامع قبل أن يتسنّى لمُقاتلي «طالبان باكستان» استغلال حالة الفوضى السياسية والمشكلات الاقتصادية لتنظيم حالة تمرّد مسلّح أشمل وأوسع. وتلفت المجلّة إلى أن اتّخاذ قرار سياسي بهذا الشأن يتطلّب دعماً كاملاً من جانب قادة الجيش، مستدركةً بأنه لا مؤشّرات حالية إلى أن البلد بصدد السير في قرار من النوع المذكور. في المقابل، تَعتبر مجلّة «ناشونال إنترست» أنه لا توجد حلول سهلة لهزيمة «طالبان باكستان» بالنسبة إلى حكومة شريف، في ظلّ صعوبة ضبْط الحدود، وحالة التعاطف الشعبي مع التنظيم، مضيفةً أنه لا مفرّ من تقبُّل إسلام آباد لذلك الواقع على المدى القصير. أمّا الخيارات المتاحة على المدى البعيد، فهي لا بدّ أن تشمل البدء جدّياً بمكافحة الفكر المتطرّف داخل البلاد، إلى جانب الدخول في محادثات سياسية مع قادة قبائل البشتون لمعالجة هواجسهم بصدق وشفافية، وفق المجلّة الأميركية.