مشهد المصالحات وعمليات التقارب في الإقليم برعاية صينية بين السعودية وإيران، أو روسية بين سوريا وتركيا، يثير توتّراً كبيراً في واشنطن. فنجاح مساعي «المنافسين الاستراتيجيين» في المساهمة في خلق الظروف الملائمة للاستقرار، سينعكس تعزيزاً لدورهما السياسي ونفوذهما في المنطقة على حساب الدور والنفوذ الأميركيَين. ومن منظور أشمل، فإن حجّة «الحفاظ على الاستقرار» كانت من بين أبرز المسوّغات لحمل قسم معتبر من دول العالم والمنطقة على التسليم بالهيمنة الإمبراطورية الأميركية باعتبارها «أهون الشرور». تمكُّن بكين وموسكو من تقديم نموذج لـ«استقرار من دون هيمنة»، مستند إلى تفاهمات جدّية بين دول الإقليم، برعاية محايدة منهما، سيزيد من إضعاف مشروعية النموذج الإمبراطوري الأميركي للاستقرار المشار إليه.بعد التطبيع بين الرياض وطهران في بكين، تساءل العديد من المراقبين عن كيفية ردّ واشنطن على هذا التطوّر الشديد السلبية بالنسبة لها. وذهب البعض إلى حدّ الافتراض بأنها قد تحاول الدفع لاغتيال ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، كما سبق أن فعلت مع الملك فيصل بن عبد العزيز بعد استخدامه سلاح النفط في 1973، أو التشجيع على انقلاب عليه عقاباً له على عدم الالتزام بأجندتها الاستراتيجية الدولية والإقليمية. وبمعزل عمّا قد تحيكه الإدارة الأميركية في الخفاء، وما بقدرتها أن تفعله في ظلّ موازين القوى العالمية المستجدة، فإن الأكيد هو أنه لم يكن باستطاعتها، على المستوى الشكلي على الأقلّ، ومعها بقية عواصم الغرب، سوى الترحيب بالإنجاز الصيني. غير أن الأمر يختلف بالنسبة لما يجري من انفتاح عربي على سوريا، ومن رعاية روسية لتقارب تركي - سوري. لا تتورّع إدارة بايدن عن المعارضة العلنية لهذه المسارات بذريعة «رفض التطبيع مع نظام الأسد»؛ والشروع بتصعيد ميداني عبر غاراتها الأخيرة في الشرق السوري، يندرج في إطار محاولات لتخريبها.
سبق للمفكر الأميركي نعوم تشومسكي أن خصّص كتاباً للسياسة الأميركية حيال بلدان الجنوب صدر في أواخر الثمانينيات بعنوان «إعاقة الديموقراطية» (Deterring Democracy)، اعتبر فيه أن أولوية واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في هذا الجزء من المعمورة كانت منع وصول حكومات منتخبة إلى السلطة. فعلى عكس ادعاءاتها الدفاع عن الديموقراطية في مواجهة «الشمولية»، هي رأت في وصول مثل هذه الحكومات، الممثّلة لتطلعات شعوبها إلى الاستقلال والسيطرة على مواردها الوطنية لتوظيفها في عمليات التنمية وإعادة توزيع الثروة بعدالة أكبر، تهديداً مباشراً لمصالحها، فعملت على الإطاحة بها، حيث استطاعت ذلك، من خلال الانقلابات العسكرية. هذا ما تمّ في غواتيمالا في أواخر الأربعينيات، وفي إيران في بداية الخمسينيات، وفي الكونغو وإندونيسيا وتشيلي والأرجنتين والأورغواي والإكوادور وغيرها من بلدان الجنوب. تغيّرت موازين القوى في عالم اليوم، وفشلت معظم الانقلابات التي هندستها واشنطن خلال تنفيذها، كما حدث في فنزويلا، أو بعد حين، كما جرى في بوليفيا، أو في البرازيل، مع هزيمة بولسونارو، وعودة لولا إلى السلطة. لكن الولايات المتحدة ما زالت قادرة على التخريب، وإشعال الحرائق، لـ«إعاقة الاستقرار» في منطقتنا هذه المرّة، والحؤول دون ما قد يفسحه من مجال لتعزيز التعاون بين دولها وبين الصين وروسيا.
حجّة «الحفاظ على الاستقرار» كانت من بين أبرز المسوّغات لحمل قسم معتبر من دول العالم والمنطقة على التسليم بالهيمنة الأميركية


في مقال بعنوان «واشنطن تهزّ المرجل السوري» على مدونته «إنديان بونش لاين»، أعرب الديبلوماسي الهندي السابق، والخبير المخضرم بالشؤون الدولية، م.ك. بدراكومار، عن اعتقاده بأن أحد التفسيرات المحتملة للتصعيد العسكري الأميركي في شرق سوريا هو افتعال مجابهة مع إيران وحلفائها في هذا البلد ضمن مخطّط يهدف إلى تخريب مسارات المصالحة والتقارب التي يشهدها الإقليم. يقول بدراكومار: «النوايا الأميركية الفعلية قد تكون الصدام مع إيران على الأراضي السورية، وهو ما تشجّع عليه إسرائيل أيضاً، والاستفادة من تورّط روسيا في أوكرانيا. المحور الروسي - الإيراني يزعج واشنطن كثيراً. ما يؤرّق الأخيرة هو احتمال أن يفضي تثبيت الاستقرار في سوريا، بعد تطبيع العلاقات بين رئيسها وبين البلدان العربية وتركيا، إلى تسوية سياسية نهائية فيها تهمّش الغرب الجماعي». يكرّر المسؤولون الأميركيون في الآونة الأخيرة رفضهم لأيّ انفتاح من دول المنطقة على سوريا، كما فعل فيدانت باتل، نائب المتحدث باسم الخارجية الأميركية، إثر زيارة الرئيس السوري للإمارات. أكد باتل أن «موقف الولايات المتحدة ضدّ التطبيع لم يتغيّر. لن تطبّع ولا نشجع الآخرين على التطبيع مع الأسد، في غياب تقدّم حقيقي ودائم نحو حلّ سياسي يتماشى مع القرار 2254».
ظنّت إدارة بايدن أن استمرار سياسة العقوبات وحرمان الدولة السورية من مواردها، سيقود إلى إضعافها لأقصى الحدود، وربما التسبّب بانهيارها، غير أن المتغيّرات الدولية والإقليمية، وما يترتّب عليها بالنسبة لسوريا، سيمنع تحقّق مثل هذا السيناريو. هي تلجأ اليوم إلى التوتير علّه يؤدّي إلى عرقلة مسار التطبيع، لكن سقف مثل هذا الخيار غير واضح. ماذا لو قرّرت أطراف المقاومة السورية والعراقية رفع مستوى المواجهة مع قواتها الموجودة في البلدَين؟ هل ستتراجع دول المنطقة عن خياراتها حيال سوريا وإيران نتيجة لشنّ الطيران الأميركي غارات على مواقع لمنظّمات شعبية في الأولى؟ في الحقيقة، فإن ما أظهرته التطورات حتى الآن هو أن الدول العربية التي غيّرت مقاربتها للأوضاع في سوريا قامت بذلك بعد مراجعة لسياساتها السابقة، التي أخفقت في تحقيق أهدافها، وبعد تقدير للموقف على الصعيدَين الدولي والإقليمي، أوصلاها إلى قناعة بضرورة تغيير موقفها. من غير المرجّح أن تقوى بعض عمليات عرض العضلات الأميركية في حمل تلك الدول على التراجع عن خياراتها الراهنة تجاه سوريا وإيران.