لا تزال الأزمة التي تعصف بكيان الاحتلال تفرض نفسها على المشهدَين المحلّي والإقليمي وتحظى باهتمام دولي، وخصوصاً في الولايات المتحدة، كونها تتجاوز بنتائجها الساحة الإسرائيلية. كما لا تزال الأسئلة المُثارة حولها، وما ستخلّفه في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، محطّ اهتمام ومناقشة لدى الخبراء والمسؤولين السابقين والحاليين. ولعلّ من أبرز الشخصيات التي تناولت هذا التحدّي، أحد أهمّ المقربين من رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، ومستشاره السابق لقضايا الأمن القومي (2017 - 2021)، مئير بن شبات، الذي نبّه إلى حجم المخاطر المحدقة بإسرائيل من جرّاء هذه الأزمة، والقيود التي تواجهها في الطريق إلى تسويتها، وما يمكن أن يترتّب على أيّ قرارات خاطئة في التعامل مع حقل الألغام ذاك، والذي تجد القيادة السياسية نفسها مضطرّة إلى عبوره.لم يحاول بن شبات طمأنة الرأي العام إزاء المستقبل، بل حذّر من أن «إسرائيل تشبه سفينة تبحر في مياه هائجة، وفي محيط يُهدّدها، وتخاف من الاصطدام بكُتلة جليدية». وتتصاعد درجة المخاطر، بنظره، بفعل أداء القيادة التي تقود هذه السفينة، مخاطباً نتنياهو، ضمناً، بأن «على كلّ واحد منّا أن ينتبه إلى أفعاله التي يمكن أن تؤدّي إلى إغراقها». وخلافاً لمقولات راجت أخيراً من أن إسرائيل سبق أن واجهت تحدّيات مشابهة ونجحت في الالتفاف عليها واحتوائها، اعتبر بن شبات أن إسرائيل تواجه «إحدى أصعب الأزمات في تاريخها»، وهو ما يُعدّ محلّ شبه إجماع في الكيان. ومردّ ذلك التوصيف، أن الخطر الناجم عن الأزمة الحالية «يهدّد الحصانة القومية»، فيما «الانقسام بين مكوّنات المجتمع عميق وواسع، وقد فَتَحَ جروحاً كبيرة من الماضي لم تُشف بعد»، كما يقول المسؤول السابق.
أمّا الميزة الأخرى للأزمة الراهنة، فهي أن «الانقسام تعدّى الحلبة السياسية منذ زمن، وبات يتغلغل في أوساط شرائح المجتمع والقطاعات، كما في الحلقة التي تحيط بمجالات الأمن»، في إشارة إلى المشكلات التي نشبت خلال إحياء ذكرى قتلى جيش العدو وإعلان قيام دولة الاحتلال (أو ما يسمّى «يوم الاستقلال!»). إذ طالما جرى التعامل مع هذا الحدث «على أنه قُدس الأقداس بالنسبة إلى المجتمع ومعقل الوحدة والمؤسّسات»، فيما حصل هذه السنة يؤشّر إلى تصدّع آخر وأهمّ رموز الإجماع القومي الصهيوني، كما يرى بن شبات. ومن هنا، فإن أيّ تسوية سياسية لن تعالج إلّا بعض نتائج الأزمة، وليس جذورها الأيديولوجية والقطاعية، خاصة في ظلّ تحوّلات ديموغرافية باتت تشكّل جزءاً ثابتاً من المشهد الإسرائيلي، وتمثّل نتائجها القاعدة الاجتماعية الصلبة لكلّ التيّارات المتصارعة على هوية المجتمع و«الدولة».
مئير بن شبات: كلّ صياغة لرؤيا أو هدف قومي، من المتوقّع أن تصطدم بثنائية «مع وضدّ»


وبالنظر إلى أن كيان العدو محاط بقوى معادية، ترفض أصل وجوده انطلاقاً من كونه كياناً استعمارياً استيطانياً اقتلاعياً إحلالياً، فإن ذلك يجعل من نتائج احتدام الصراع الداخلي مغايرة جذرياً، لِما قد يواجهه أيّ مجتمع ودولة. وعلى هذه الخلفية، أتى تحذير بن شبات من أن «الأزمة الداخلية تُظهر إسرائيل أمام أعدائها كمجتمع ضعيف ومفكّك وفي حالة صراع، وتمنحهم الأمل في تحقيق توقّعاتهم الكئيبة المتعلّقة بنا»، مع التذكير هنا بأن البنية الاجتماعية تشكّل أحد أهمّ مداميك الأمن القومي الإسرائيلي، وهي لطالما شكّلت أحد العناصر الأساسية في بلوغ المشروع الصهيوني ما بلغه. وبناءً على ما تَقدّم، شدّد المسؤول السابق، الذي كان امتنع عن المشاركة في المقابلات التي أجرتها «يديعوت أحرونوت» قبل أسابيع مع مستشارين للأمن القومي من مختلف التيّارات والانتماءات - أجمعوا على كون الأزمة الداخلية تمسّ الأمن القومي الإسرائيلي -، على ضرورة التوصّل إلى اتّفاق حول القضايا التي وصفها بالمصيرية، بهدف «المحافظة على الوحدة في واقع انشقاق عميق واستقطاب»، وعلى أمل أن يحول ذلك دون «تفاقم الوضع وإخراج الجيش وأجهزة الأمن كلّياً من الصراع».
لكن الوصول إلى ذلك الهدف يتطلّب، بحسب بن شبات، التعامل مع الأسئلة الكبيرة حول «الهوية، والرؤية، وقواعد اللعبة في حالات الخلاف»، وهو ما لا يبدو سهلاً. إذ إن «كلّ صياغة لرؤيا أو هدف قومي، من المتوقّع أن تصطدم بثنائية "مع وضدّ"، وأسئلة من قَبيل كيف وأين يمكن التوصّل إلى اتّفاق بشأن هذه القضايا؟». وإذ شدّد المسؤول السابق للأمن القومي على أن أيّ صيغة ينبغي أن تعكس أساساً مشتركاً واسعاً في المجتمع الإسرائيلي، فإن الإشكالية الرئيسة المطروحة اليوم، تظلّ حول ما إن كان هذا الأساس لا يزال قائماً أصلاً في ظلّ عمق الانقسام وحدّيته. وهي إشكالية تتفرّع عنها أخريات لعلّها الأكثر إقلاقاً للنخبة الصهيونية، ومن بينها: هل بلغ الصراع مرحلة اللاعودة؟ وإذا ما كان المجتمع قد وصل إلى هذه النقطة بالفعل، فما هي العواصف التي تنتظر الكيان، في ظلّ تصاعد قوّة أعدائه، والتحوّلات الدولية والإقليمية التي تصبّ في مصلحة هؤلاء؟