مَن يطالع سيرة زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، كمال كيليتشدار أوغلو، يبدو الأخير بالنسبة إليه أقرب إلى «المرشّح المثالي» لمقارعة رجب طيب إردوغان، وربّما خلافته على رأس الجمهورية التركية. في الظاهر، يحمل العابر إلى السباق الرئاسي عبر تجمّع «الطاولة السداسية»، لواء «المعارضة العلمانية» في وجه «النظام الإسلاموي» الطابع لحزب «العدالة والتنمية». أمّا في المضمون، وعلى المستويَين الشخصي والسياسي، يشكّل الرجل حالة نقيضة لخصمه القابع في القصر الرئاسي في أنقرة، والذي تحوم حوله في كثير من الأحيان شبهات «الزبائنيّة السياسية»، ويُتّهم بتبنّي خطاب الشحن المذهبي، إضافة إلى نهجه الإقصائي ضدّ مواطنيه من الأقلّيات، والذي يتجلّى في المواسم الانتخابية من خلال تأليب فئة ضدّ أخرى. هذه الحالة النقيضة تعبّر عن جانب منها النزاهةُ ونظافة الكف، واللتان اتّسم بهما العمر الوظيفي لأوغلو منذ شغله منصب مفتّش ضريبي أوائل السبعينيات، وصولاً إلى تعيينه في منصب المدير العام لمؤسسة التأمين الاجتماعي، ومن ثمّ منصب وكيل وزارة مساعد في وزارة العمل والضمان الاجتماعي، معظم عقد التسعينيات، وكذلك الخطاب القومي الجامع، طيلة فترة تولّيه زعامة «حزب الشعب الجمهوري» خلفاً لدنيز بايكال عام 2010. تلك المزايا بالضبط، تُعدّ أبرز مرتكزات ترشّح المتخصّص في العلوم المالية، والمولود في إحدى البلدات الفقيرة والنائية وسط تركيا.وعلى رغم أن حياتَي إردوغان وكيليتشدار أوغلو تتقاطعان عند جذورهما الاجتماعية المتواضعة، إلّا أنهما تزخران باختلافات تبدأ بالخلفيات الأيديولوجية المتباينة لكلا الرجلَين، ولا تنتهي عند حدّ فارق الخبرة السياسية، بين رئيس «العدالة والتنمية» الذي تولّى في سنّ مبكرة منصب عمدة إسطنبول أواسط تسعينيات القرن الماضي، وفاز بولايتَين برلمانيتَين عامَي 2002 و2007 على التوالي، وبين زعيم «الشعب الجمهوري» الذي دخل متأخّراً إلى المعترك السياسي. وبالمقارنة مع الآراء الاجتماعية المحافظة لإردوغان، فقد عُرِفت عن كيليتشدار أوغلو آراؤه الجريئة، المغايرة للنهج التقليدي المتَّبع داخل صفوف حزبه، الذي يُعتبر «حامي القيم العلمانية للجمهورية التركية»، لا سيما تلك المتعلّقة بمسائل جدلية في المجتمع التركي، كالحجاب. ذلك أن زعيم «الشعب الجمهوري» انتقد مراراً قانون منع الحجاب الذي أقرّته حكومات محسوبة على حزبه، كما أنه خالف الصورة النمطية السائدة عن أعضاء الأخير من خلال إظهار حرصه على احترام العبادات والطقوس الدينية.
هكذا، ومن زعامة حزب مؤسّس الجمهورية التركية، وبعدما استهلّ مشواره في الحياة السياسية كنائب في البرلمان التركي، تمكّن، مع مرور الوقت، من تكريس نفسه كأحد أبرز الوجوه المعارضة لحكم إردوغان على مدى سنوات، قبل أن يعزّز مكانته مع نجاح الائتلاف المناهض لسلطة «العدالة والتنمية» في هزّ أركان عرشها في عمدتَي إسطنبول وأنقرة اللتَين تُعدّان من المدن الكبرى في البلاد، وذلك خلال انتخابات عام 2019. وعلى رغم وجود خلافات في الرؤى بين أفرقاء المعارضة التركية، عكَسها دخول كلّ من سنان أوغان عن تحالف «أتا» (الأجداد)، ومحرم إينجه عن «حزب البلد»، على خطّ السباق الرئاسي (قبل أن يعلن الأخير انسحابه ظهر أمس)، إلّا أن اتّفاق معظمهم، عبر «تحالف الأمة»، على ترشيح كيليتشدار أوغلو يُحسب للأخير كشخصية جامعة في المعركة الانتخابية ضدّ إردوغان، بالاستفادة من عوامل قسرية أبعدت وجوهاً معارضة بارزة عن المشهد الراهن على غرار عمدة إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، الذي حُكم عليه العام الماضي بالسجن لمدّة عامين وستّة أشهر بتهمة إهانته مسؤولين حكوميين.

السياسة الخارجية: أيّ تغييرات متوقّعة؟
في حال فوز مرشّح المعارضة التركية في الانتخابات الرئاسية المنتظَرة، ستكون العلاقات التركية - الأوروبية من ضمن الملفّات المرشّحة لتغيّرات جدّية. إذ تعهّد كيليتشدار أوغلو، خلال مقابلة تلفزيونية، لمواطنيه، بالسفر من دون تأشيرة إلى دول الاتحاد الأوروبي «شنغن»، إذا ما تمّ انتخابه، وهو ما تحدّثت مصادر ديبلوماسية غربية عن أنه جاء بعد لقاءات أجراها الرجل مع ديبلوماسيين أوروبيين في العاصمة التركية مطلع الشهر الفائت، وقدّم فيها ضمانات بأن حكومته ستبادر إلى تلبية المعايير والإصلاحات كافة التي سبق وأن طالبت بها بروكسل، حتى لو لم يفضِ ذلك إلى قبول عضوية تركيا في التكتّل الأوروبي. وبحسب تلك المصادر نفسها، فإن المعارضة تعهّدت، أيضاً، بإطلاق سراح الزعيم السياسي الكردي البارز، صلاح الدين دميرطاش، والناشط المدني ورجل الأعمال التركي، عثمان كافالا، مراعاةً للقرارات الصادرة عن «المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان».
عُرِفت عن كيليتشدار أوغلو آراؤه الجريئة، المغايرة للنهج التقليدي المتَّبع داخل صفوف حزبه


أمّا بالنسبة إلى العلاقات مع واشنطن، فقد حظيت تصريحات أدلى بها كيليتشدار أوغلو العام الماضي، وأبدى فيها استعداده لإغلاق القواعد العسكرية الأميركية على أراضي بلاده، مستنكراً دعم الولايات المتحدة لليونان، الخصم التاريخي لتركيا، بمتابعة لافتة في العواصم الغربية، كونها أعطت مؤشّراً بشأن بتشدّد المعارضة في هذا الملفّ، وبصورة لا تقلّ عن حدّة مواقف إردوغان الناقدة للسياسات الأميركية. وفي ما يدلّ على وجود شبه إجماع تركي على تراجع دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، اعتبرت مصادر قيادية في المعارضة التركية أن أنقرة يجب أن تتمسّك بقيام شراكة ندّية مع واشنطن، مؤيّدةً نهج الحكومة الحالية لناحية مراعاة التوازن والحياد بين الغرب وروسيا، كما هو الحال في ما يخصّ حرب أوكرانيا. ومع ذلك، لا تبدو مهمّة إمساك العصا من الوسط بهذه البساطة؛ إذ إن لقاء كيليتشدار أوغلو بالسفير الأميركي لدى أنقرة قبل أسابيع قليلة، تطرّق إلى مسألة إعادة تركيا إلى برنامج مقاتلة «F-35» الذي أُبعدت منه عام 2019 على خلفية شرائها منظومة صواريخ «S-400» الروسية. وعليه، فإن أيّ حكومة تركية مقبلة، بصرف النظر عن هوية الفائز بالسباق الرئاسي، ستكون مطالَبة بالاختيار بين العودة إلى البرنامج العسكري المذكور، برعاية واشنطن، أو الإبقاء على تمسّكها بالنظام الروسي للدفاع الجوّي.
وعلى رغم كلّ ما يشاع بشأن تشتّت الرؤى الخارجية للمعارضة التركية، والدعوات إلى عدم التسرّع في إطلاق أحكام مستقبلية بشأنها، فإن الخطّ المتشدّد، أقلّه ظاهرياً، لمرشّحها على صعيد العلاقة مع الحليف الأميركي، ينسحب كذلك على مسألة العلاقة مع إسرائيل. ففي خطاب علني قبل أشهر، ذكّر كيليتشدار أوغلو بواقعة الاعتداء الإسرائيلي على سفينة المساعدات الإنسانية «مرمرة» عام 2010، ملمّحاً إلى عزمه التراجع عن التقارب مع تل أبيب، مشدّداً على أن «هناك ثمناً لاستشهاد مواطنينا في المياه الدولية، ويجب دفعه». وفي المقابل، يقلّل محللون من شأن تلك الإدانة اللفظية من جانب مرشّح المعارضة للممارسات الإسرائيلية، واضعين إياها في سياق الدعاية الانتخابية، بينما يشرح مصدر قيادي في المعارضة، لموقع «ميدل إيست آي»، أن كيليتشدار أوغلو، في حال فوزه بانتخابات الرئاسة، «لن يتّبع سياسة خارجية متشدّدة في الشرق الأوسط، بل سيسعى إلى التواصل مع الجانبَين الإسرائيلي والفلسطيني»، وأنه «سيبحث في مسألة التعويضات (لأهالي ضحايا الاعتداء على مرمرة)، إلّا أن هذه المسألة لن تحُول دون مواصلة علاقاتنا مع إسرائيل». ويؤكد المصدر أن المعارضة ستولي اهتماماً لتعزيز العلاقات مع كلّ من إسرائيل، والمملكة المتحدة، وبلدان الاتحاد الأوروبي في مجال الصناعات العسكرية، كاشفاً عن «استعدادها للتفاوض بشأن كل القضايا بهدف تطبيع العلاقات مع الجوار، كمصر وإسرائيل». ويتابع: «قد نضطرّ مستقبلاً إلى التباحث معهما بشأن وجود (كوادر) تابعة لحماس، وتنظيم الإخوان المسلمين على الأراضي التركية».
وبين من يرشّح تركيا للعودة إلى نهج العزلة تجاه ملفّات المنطقة، جرياً على نمط التفاعلات الإقليمية التركية إبّان عقدَي الثمانينيات والتسعينيات، ومن يرجّح إعادة تفعيلها التوجّه التوسّعي، حمل برنامج «تحالف الأمة» الانتخابي تعهّداً بردّ الاعتبار إلى مبدأ أتاتورك: «سلام في الداخل. سلام في الخارج». ولتأكيد هذا التوجّه، أعلن كبير مستشاري كيليتشدار أوغلو في شؤون السياسة الخارجية، أونال سيفيكوز، أن أيّ حكومة معارِضة ستنتهج «مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، مع التزام نهج الحياد في السياسة الخارجية واحترام الأعراف والقوانين الدولية»، منتقداً السياسة الخارجية المستندة إلى اعتبارات أيديولوجية، والقائمة على التدخّل في شؤون الدول الأخرى. واعتبر سيفيكوز، وهو ديبلوماسي تركي سابق، أن السياسة الإقليمية الراهنة لبلاده «يجب أن تتغيّر»، موضحاً أنه «يجب إعطاء الأولوية للحوار والديبلوماسية».
أمّا بخصوص رؤية فريق كيليتشدار أوغلو لحلّ الأزمة في سوريا، فينقل موقع «ميدل إيست آي»، عن مصدر بارز في المعارضة التركية، قوله إن تلك الرؤية «ستعتمد إلى حدّ كبير على محاورة الرئيس السوري، بشار الأسد»، مؤكداً وجود توجّه لـ«تصحيح» موقف بلاده الذي لم يكن حيادياً إبّان الحرب الأهلية السورية. ومع ذلك، استبعد انسحاب الجيش التركي بصورة فورية من المناطق التي يحتلّها داخل حدود الجارة الجنوبية، أو تفكيك النظام الإداري الاقتصادي والأمني الذي فرضته أنقرة هناك، شارحاً أن الأمر يرتبط بتلبية دمشق عدداً من المطالب التركية، وعلى رأسها العودة إلى تنفيذ بنود «اتّفاقية أضنة» لعام 1998، والتي تتيح لتركيا العمل ضدّ الفصائل المسلّحة الكردية داخل سوريا بعمق 5 كيلومترات، معقّباً بالقول: «سنتباحث (مع الأسد) بشأن شروطنا للانسحاب، لِيُبنى على الشيء مقتضاه». وعن جدّية وعود كيليتشدار أوغلو بإعادة النازحين السوريين في تركيا، والمقدّر تعدادهم بنحو 3.7 ملايين نازح، إلى بلادهم في غضون عامين، يشكّك المصدر في قدرة مرشّح «تحالف الأمّة» على تنفيذ تعهّداته هذه، لافتاً إلى أن المسألة «ستتطلّب وجود محفّزات (للنازحين) كفرص للعمل وجهود إعادة تأهيل للسكان، وذلك بالتأكيد من خلال تقاسم الأعباء مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة».