هي المرّة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية التي لا يفوز فيها أحد المرشّحين للرئاسة من الدورة الأولى، ممّا يجعل هذه الانتخابات الأكثر حدّة وربّما الأهمّ منذ إنشاء الدولة الحديثة على أنقاض السلطنة العثمانية. ومع رسوّ السباق على متناقضَين، هما: رجب طيب إردوغان، وكمال كيليتشدار أوغلو، يشتدّ صراع الهويّة، مع انشطار الأتراك، نصفهم نحو العلمانية، والنصف الآخر نحو «الإردوغانية» وما يمثّله الزعيم «الإسلامي» من «خطر» على التركة «الأتاتوركية». لكن، وعلى أيّ حال، فإن جولة الإعادة ستحسم هذه «المعضلة»، ومعها مستقبل هذا البلد ووجهته داخلياً وعلى المستوى الخارجي، فيما سارعت روسيا، الداعمة لإردوغان، إلى التأكيد أن العلاقات بينها وبين تركيا ستستمرّ في «التعمّق»، بغضّ النظر عن اسم الفائز. ولعلّ عاملاً آخر سيحسم النتيجة، وهو المرشّح القومي، سنان أوغان، الحاصل على 5.3% من الأصوات، ممّا يجعله «صانع ملوك» محتملاً، حين يقرّر دعم هذا المرشّح أو ذاك. أمّا برلمانيّاً، فاحتفظ «تحالف الجمهور» المتشكّل من حزبَي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» بالغالبية المطلَقة في البرلمان، وإنْ ظلّت دون عتبة الـ360 نائباً الضرورية لتحويل أيّ تشريع إلى استفتاء، فيما حصل «تحالف الأمّة» على 212 نائباً من مجموع 600
كما كان متوقّعاً، دَفع اشتداد التنافس بين مرشّح السلطة عن «تحالف الجمهور»، الرئيس المنتهية ولايته رجب طيب إردوغان، ومرشّح المعارضة عن «تحالف الأمّة»، كمال كيليتشدار أوغلو، إلى عدم حسْم النتيجة من الدورة الأولى لمصلحة أيٍّ من المرشّحَين، على رغم تقدُّم إردوغان الذي لم ينجح في تأمين ما يكفي من الأصوات لتأكيد فوزه. على أن عمليّات «التلاعب النفسي» بدأت في وقت مبكر، مع بدء فرز أولى صناديق الاقتراع مساء أول من أمس، الأحد. وبعدما بان نظريّاً أن إردوغان متقدّم في معظم أقلام الاقتراع، وفق ما نشرته بدايةً وكالة «الأناضول» الرسمية للأنباء، إلّا أن الأرقام الأوّلية ظلّت تتراجع نزولاً من 60% إلى ما دون الخطّ الأحمر، أي أقلّ من 50% زائد صوت واحد، النسبة المطلوبة لفوز أحد المرشّحَين بالرئاسة؛ والمعنيّ هنا إردوغان كونه هو الذي حصل على أعلى نسبة تصويت بلغت، بعد فرز أكثر من 99.9% من الأصوات، 49.51%، في مقابل 44.88% حصل عليها كيليتشدار أوغلو، و5.30% للمرشّح عن «تحالف آتا» (الأجداد) سنان أوغان (قومي)، الذي مثّل مفاجأة اليوم الانتخابي الطويل (ممّا يجعله «صانع ملوك» محتملاً)، فيما نال المرشّح المنسحب من السباق، محرم إينجه، 0.43%، وهي نسبة على رغم ضآلتها، إلّا أنها تُعتبر عاملاً مؤثّراً في النتيجة، ذلك أن الأصوات الذي حصل عليها تُحتسب ضمن الأصوات المفرزة. وفي هذا الإطار، وعلى افتراض أن 0.80% من أصوات إينجه وأوغان ذهبت إلى إردوغان، لكان هذه الأخير حسم السباق لمصلحته من الدورة الأولى، فيما كان كيليتشدار أوغلو بحاجة للحصول على كلّ الأصوات الممنوحة لأوغان تقريباً، ليتقدّم على منافسه.
كان واضحاً منذ فجر يوم أمس، أن مرشّح المعارضة لن يفوز من الدورة الأولى؛ لذا، توجّهت الأنظار إلى ما إذا كان في مقدور إردوغان حسْم النتيجة أم لا، علماً أن الرئيس المنتهية ولايته كان يدلي بتصريحات متناقضة تؤكد من جهة ثقته بالنصر، ومن جهة ثانية عدم يقينه ممّا إذا كان سيربح من الجولة الأولى أو أن الانتخابات ستذهب إلى جولة إعادة. ومع ذلك، أصرّ إردوغان، بعد منتصف ليل أمس، على إلقاء ما بات مشهوراً بـ«خطاب البلكون» من على شرفة مقرّ «حزب العدالة والتنمية» في أنقرة، قائلاً أمام أنصاره، ووسط هتافات صاخبة: «أنا أؤمن من أعماق قلبي بأننا سنواصل خدمة شعبنا في السنوات الخمس المقبلة»، وهو ما حدا بالمرشّح سنان أوغان إلى انتقاد ما أدلى به الرئيس، معتبراً إيّاه قرصنةً للنتائج. وإلى حين صدور النتائج النهائية، فإن الذهاب إلى جولة ثانية من التصويت في انتخابات الرئاسة بعد أسبوعين من الآن، في 28 أيار الجاري، بات محسوماً، وفق ما أكدته «الهيئة العليا للانتخابات».
لا يزال إردوغان يحصد أصوات الفئات المحافظة والريفية والداخلية المطلّة على البحر الأسود


واعتباراً من الآن، بدأت التحليلات حول احتمالات التصويت في الجولة الثانية، انطلاقاً من الأرقام التي حصل عليها المرشّحون الثلاثة في الدورة الأولى. أولاً: لم يكن متوقّعاً أن يلامس إردوغان عتبة الـ50%، فيما كانت التوقّعات تشير إلى احتمال حصول كيليتشدار أوغلو على أكثر من 45%، وسنان أوغان على 2% فقط.
على أن بقاء إردوغان وكيليتشدار أوغلو إلى الجولة الثانية وتوقُّع النتائج النهائية مرتبط بالإجابة على العديد من الأسئلة، منها: هل ستبقى نسبة التصويت لإردوغان عند عتبة الـ49.5%، أم أنها ستتراجع أم ستزيد؟ وفي حال زادت، من أين سيأتي بالأصوات الجديدة، هل من الكتلة التي صوّتت لسنان أوغان، وهي 5%، أم من مصدر آخر؟ وهي أسئلة تنطبق أيضاً على كيليتشدار أوغلو. وبما أن أوغان بات خارج المنافسة، فإن السؤال الذي يُطرح هو عن وجهة قاعدته الناخبة، وإن كانت ستصوّت لإردوغان أم لكيليتشدار أوغلو أم أنها ستوزّع أصواتها بينهما؟ وهل توزيع أصوات أوغان كافٍ لتوقّع النتائج منذ الآن في الدورة الثانية؟ ومن المهمّ هنا، معرفة اتّجاهات الكتلة التي صوّتت لسنان أوغان، وإنْ كانت معترضة بالكامل على كيليتشدار أوغلو وتقاربه مع الأكراد، وبالتالي لن تصوّت له في الدورة الثانية ويفوز إردوغان تالياً، أم أنها ستصوّت كلّها لمرشّح «تحالف الأمّة» على اعتبار أن أوغان معارض في الأساس لسياسات إردوغان. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن كيليتشدار أوغلو اتّصل، مساء أول من أمس، بسنان أوغان وهنّأه على الأصوات التي نالها. وبدت الرسالة واضحة من أن مرشّح المعارضة المتأهّل إلى دورة ثانية يَعتبر أن أصوات أوغان يجب أن تصبّ تلقائيّاً في مصلحته في الدورة الثانية، فيما يؤكد الاتصال الهاتفي على «وحدة المصير». لكن أوغان اشترط، في مقابلة أجراها مع وكالة «رويترز»، أمس، لدعم مرشّح المعارضة في جولة الإعادة، ألّا يقدّم هذا الأخير أيّ تنازلات للأكراد، قائلاً: «سنتشاور مع قاعدة ناخبينا قبل التوصّل إلى قرار حول جولة الإعادة، لكنّنا أوضحنا أن محاربة الإرهاب وإعادة اللاجئين خطوط حمراء». وثمّة سؤال آخر يَطرح نفسه، وهو أن جزءاً مهمّاً من حماسة الناخبين الذين ذهبوا للاقتراع، كانت من أجل الاقتراع لأحزابهم في الانتخابات البرلمانية أولاً، ومن ثمّ التصويت لمرشّح رئاسي معين. فهل ستتراجع هذه الحماسة الآن للذهاب إلى الاقتراع مجدّداً، سواء بالنسبة إلى ناخبي إردوغان أو كيليتشدار أوغلو؟
لكن النسبة التي نالها أوغان ليست له مباشرة، بل لعلّ جزءاً من ناخبي محرم إينجه صوّت له، فيما يُحتمل أن تذهب نسبة ممّا كان يُتوقّع أن يناله لو بقي في السباق الرئاسي، إلى إردوغان وليس إلى كيليتشدار أوغلو، خصوصاً وأن إينجه لم يُجِب على اتصال منافسه المعارض السبت، ولكنّه ردّ على اتصال إردوغان. وهذا قد يعني أنه لم يَعُد لدى إينجه ما يعطيه للرئيس المنتهية ولايته في الدورة الثانية، فيما قد تذهب أصوات أوغان إلى كيليتشدار أوغلو في حال نجحت الاتصالات معه على هذا الصعيد. كذلك، قد تأخذ الحماسة بنسبة من الذين لم يدلوا بأصواتهم في الجولة الأولى، للاقتراع في الجولة الثانية.
وممّا ظهر حتى الآن، يمكن اعتبار أن نتائج الانتخابات البلدية في إسطنبول وأنقرة عام 2019، لا تزال سارية المفعول في انتخابات الرئاسة الحالية، حيث تقدّم كيليتشدار أوغلو على منافسه إردوغان في المدينتَين الكبريين، فضلاً عن التقدُّم المحسوم للمعارضة في إزمير وبفارق كبير. وكذلك، اقترعت ديار بكر لمرشح المعارضة، وبفارق كبير. وفي القراءة الاجتماعية، لا يزال إردوغان يحصد أصوات الفئات المحافظة والريفية والداخلية المطلّة على البحر الأسود، في مقابل تقدُّم كيليتشدار أوغلو في المدن الكبرى والمناطق الساحلية المتوسطية وبحرَي إيجه ومرمرة.