أجمعت كلمات المتحدّثين، العسكريين والأمنيين والسياسيين على السواء، في مؤتمر «جامعة رايخمان» الإسرائيلية الأخير (هرتسيليا)، على حقيقة استمرار الصراع مع الفلسطينيين من دون حلول ناجعة؛ فالتسويات ولّت إلى غير رجعة، فيما يقتصر الأمر حالياً على حلول «ترقيعية»، وإدارةٍ لظواهر الصراع، يبدو أنها باتت التوجّه المفضّل لدى أصحاب القرار. وبحسب المتحدّثين، وعلى رأسهم رئيس الأركان هرتسي هليفي، وعدد كبير من أصحاب المناصب والخبراء المتّصلين بدائرة التخطيط والقرار، فعلى الرغم من كون التسوية جزءاً لا يتجزّأ من المصالح الإسرائيلية على المستوى الاستراتيجي، إلّا أن تشابك العوامل والمسبّبات، بما لا يستثني السياسة الداخلية نفسها، يدفع إلى التمسّك بالوضع الراهن كما هو، مع تأجيل الاستحقاقات ما أمكن، وإن كان التأجيل يفاقم التهديدات ويئدُ إمكانات التسوية. قد تكون هذه هي الخلاصة الأهمّ لمؤتمر «هرتسيليا» في ما يتعلّق بالصراع مع الفلسطينيين، الذين أعاد «عليّة القوم» الإيصاء بـ«المزيد من الشيء نفسه» في ما يتعلّق بمواجهتهم: التفنّن في ممارسات القمع والظلم وانتهاك حقوق الإنسان، ومزاحمة الفلسطينيين على ما تبقّى من وجودهم وحياتهم، والاجتهاد في إلباس هذه الممارسات ثوب «العقائد الأمنية» و«استراتيجيات مواجهة الإرهاب»، على رغم كون هذا «الإرهاب» نتيجة طبيعية للاحتلال نفسه، وردّة فعل إنسانية تكوينية في مواجهته.
على مرّ سنوات احتلال فلسطين، تعاملت إسرائيل مع الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ومن بينها القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، على قاعدة أنه كلّما شعرت الأولى بمكانتها الأمنية وقدرتها على فرض المعادلات وإنْ بالقوة، كلّما مالت إلى تثبيت الوضع القائم في الثانية، في ما يمكن وصفه بـ«استراتيجية التفاعل اللحظي» مع ردود الفعل الفلسطينية الساعية للإضرار بالعدو. لكن مع تعاظم الردود هذه، لم تَجد تل أبيب بدّاً من البحث عن تسوية من شأنها تهدئة الوضع الأمني، وتخفيف حدّة المواجهة، والإسهام بالتالي في مضاءلة التهديدات. إلّا أنه، وبمجرّد تحقّق تلك النتيجة، كانت إسرائيل تعود إلى سيرتها الأولى، باحثةً عن إدامة الاحتلال وإدارة الصراع بلا حلول أو تسويات. هذا هو دأبها في كلّ المحطّات، منذ «أوسلو» التي جاءت على خلفية انتفاضة الفلسطينيين والتعثّر في قمعها ومنع تداعياتها، وصولاً إلى وقتنا الحاضر.
لكن مع اصطفاف جزء من الفلسطينيين إلى جانب الاحتلال كوكيل أمني أوغلَ في قمع المقاومين إلى حدّ فاق ما قام به العدو نفسه في أوجه عديدة، من دون أن يحصد في المقابل سوى مزيد من الإذلال والتهشيم لقدرتها على السيطرة على الفلسطينيين أنفسهم، أدّى، بمعيّة عوامل أخرى إسرائيلية داخلية، إلى تفشّي اليمينية الفاشية في الكيان، والتي لا ترتضي بإدارة الصراع مع الفلسطينيين وتقليص مخاطره، بل تطالب بإنهاء الوجود الفلسطيني نفسه، والتمهيد لإعلان إسرائيل «المطهّرة» واليهودية الكاملة على أرض فلسطين التاريخية، من البحر إلى النهر، وصولاً إلى المملكة الأردنية نفسها، التي يصفها اليمين الفاشي بـ«الأرض اليهودية» المسلوبة.
ما فات هليفي هو الحديث عن جذور العمليات الفدائية وعمليات الاشتباك الفلسطينية


على أيّ حال، وبينما ينشغل السياسيون اليمينيون المتطرّفون واليمينيون الفاشيون حالياً بالبحث عن المكانة الشخصية، وتظهير التطرّف والعنصرية في وجه الفلسطينيين، يبدو القادة الأمنيّون أكثر عقلانية وموضوعية، وهو ما ظهّرته كلماتهم في مؤتمر «هرتسيليا». إذ تحدّث رئيس أركان الجيش، هرتسي هليفي، عمّا سمّاه «زيادة في الهجمات الإرهابية» في الضفة الغربية، مشدّداً على وجوب تحليل هذه الزيادة والعمل على منع تناميها وتعاظمها. واعتبر أن ثمّة ثلاثة أسباب أدّت إلى تعاظم تلك الهجمات: أوّلها، وجود جيل فلسطيني شاب لم يشهد بطش الجيش الإسرائيلي في عملية «السور الواقي» عام 2002، عندما اجتاح الاحتلال المدن الفلسطينية على خلفية تفاقم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وثانيها، الضعف الذي أصاب السلطة الفلسطينية إلى حدّ لم تَعُد تشكّل معه أيّ أمل للفلسطينيين؛ وثالثها، الإحباط التامّ المتأتّي من عدم إعارة القضية الفلسطينية اهتماماً على مستوى العالم.
ما فات هليفي، هو الحديث عن جذور العمليات الفدائية وعمليات الاشتباك الفلسطينية، والتي يمثّل إغفالها تناغماً تامّاً مع التوجّه العامّ لدولة الاحتلال، القائم على تفادي أيّ تسويات مع الفلسطينيين، وإدارة نتائج الصراع معهم عبر المزيد من القتل والقمع وسلب الحقوق. إدارةٌ لم يَجد رئيس أركان الجيش مانعاً من التفاخر بها، باعتبارها «الوصفة الأنجع» لتيئيس المقاومين ممّا يقومون بها عبر تدفيعهم وحواضنهم أثماناً شخصية وعامّة، وهو ما وصفه هليفي بـ«العمل بتصميم كبير لإحباط الإرهاب في يهودا والسامرة (الضفة)، عبر استخبارات ممتازة، وعمليات على مستوى مرتفع من المخاطرة». أمّا في ما يتعلّق بقطاع غزة، فقال: «في القطاع، نتصرّف ضمن مثلّث استراتيجي: ضلعه الأول هو الردع والاستعداد لخوض الحروب، وضلعه الثاني العمل على منع التصعيد والتسبّب به، وأمّا الثالث فهو الإغراء والمحفّزات»، والتي تتّخذ صورة «مساعدات إنسانية وواقع مدني ومعيشي معقول».
أمّا الجانب العقلاني الوحيد في مداخلة هليفي، فقد يتمثّل في «النصيحة» التي توجّه بها إلى المؤسّسة السياسية، والتي تُعزى إلى حرصه على تفادي الأسوأ، من دون تغيير في الاستراتيجيات والمنطلقات. إذ قال: «إنّني أدلي ببيان بسيط هنا: سلطة فاعلة (سلطة فلسطينية قوية للتعامل مع المقاومين) أفضل من الفوضى، وهي كذلك أفضل من أن تستلم حركة حماس الحكم» في الضفة. لكن ما الذي يدفع إسرائيل إلى قبول حكم «حماس» في غزة؟ يسأل هليفي نفسه، ليجيب: «(نعم)، حماس منظّمة إرهابية، ونحن نريد كياناً آخر هناك، لكن ليس لدينا الآن أيّ كيان آخر، لدينا فقط أدوات عسكرية ومدنية للعمل ضدّها ومهاجمتها بقسوة وفاعلية».
من جهتهم، لم يَحد بقيّة المتكلّمين عمّا أدلي بها هليفي، أي التشديد على إدارة الصراع ومخرجاته، من دون أيّ سعي إلى التسويات، ومع ترقّب المزيد من المواجهات في الطريق. باختصار، المطلوب في الضفة العمل على إحباط الفعل المقاوم، سواءً استباقياً أو لاحقاً عبر تدفيع الثمن، فيما في غزة مواصلة استراتيجية الردع بالعقاب والمحفزات، وإن كانت التقديرات تشير إلى جولات جديدة مع القطاع، لن يكون لإسرائيل من هدف فيها سوى إنهائها بسرعة كي لا تتفاقم، ومن دون الأمل بحصد أيّ نتائج مختلفة منها.