أَظهرت الانتخابات النيابية والرئاسية الأخيرة في تركيا، تراجعاً للكتلة السياسية الكردية، بعدما ظنّت أن في مقدورها، استناداً إلى قاعدتها الناخبة، ترجيح فُرص هذا المرشّح على ذاك. لكن النتائج - ولأسباب كثيرة - جاءت بخلاف المتوقّع؛ فتراجعت الأصوات التي حازها «حزب الشعوب الديموقراطي»، بالمقارنة مع انتخابات عام 2018، بنحو ثلاث نقاط، أثّرت بصورة حاسمة على تمثيل هذا الحزب، كما على وزنه في الحياة السياسية. وإذ تسود الأوساطَ الكردية، على هذه الخلفية، حالة من الإحباط والشعور بالغبن، لا يَظهر أن ثمّة تغييرات ستطرأ على خطاب السلطة أو حتى سلوكها إزاء المسألة الكردية، بل إن الرئيس رجب طيب إردوغان، بدا متشدّداً أكثر من ذي قبل، وهو ما بيّنته الحملة العنيفة التي شنّها، إثر فوزه، على الحزب الكردي ورئيسه السابق المحبوس
تسود الأوساط السياسية الكردية في تركيا، حالةٌ من الإحباط والشعور بـ«الخداع» من جرّاء نتائج الانتخابات النيابية والرئاسية. فـ«حزب الشعوب الديموقراطي»، الذي يمثّل غالبية الكتلة الكردية المقدَّرة بنحو 12 مليون نسمة، نال في انتخابات عام 2018، 11.70% من الأصوات (67 نائباً)، ليكون الحزب الثالث بعد حزبَي «العدالة والتنمية» و«الشعب الجمهوري». لكنه حصل، في الانتخابات الأخيرة، على 8.83% من الأصوات (61 نائباً)، متراجعاً بنحو ثلاث نقاط، وستّة مقاعد نيابية. كذلك، تراجعت أصوات الحزب من 5 ملايين و600 ألف صوّتوا قبل خمس سنوات، إلى 4 ملايين و800 ألف الآن. وكان «الشعوب الديموقراطي» خاض انتخابات الرئاسة عامَي 2014 و 2018 بمرشّح منفرد هو رئيسه السابق، صلاح الدين ديميرطاش، الذي بالكاد نال 8%. غير أنه، وفي الانتخابات البلدية لعام 2019، دخل شريكاً ومؤيّداً لمرشّحي المعارضة في الدوائر التي لا يستطيع مرشّحوه أن يفوزوا فيها. وشكّلت انتخابات إسطنبول وأنقرة نموذجاً لهذا التعاون، إذ ساهم «الشعوب» بقوّة في فوز أكرم إمام أوغلو في الأولى، ومنصور ياواش في الثانية.
وعلى المنوال نفسه، مثّلت انتخابات 2023 نموذجاً جديداً للتعاون والتنسيق مع المعارضة، على الأقلّ في مجال الانتخابات الرئاسية، إذ لم يقدّم «حزب الشعوب الديموقراطي»، للمرّة الأولى منذ 10 سنوات، مرشّحاً خاصاً به للرئاسة، بل أعلن تأييده لرئيس «حزب الشعب الجمهوري»، مرشّح «تحالف الأمّة» كمال كيليتشدار أوغلو. ولعبت استطلاعات الرأي، والفوز في الانتخابات البلدية، ومن ثمّ تدهور الوضع الاقتصادي وتأثيرات «كورونا» السلبية، دوراً في إظهار الكتلة الكردية على أنها «بيضة القبّان» في ترجيح الفوز «الحاسم» لكيليتشدار أوغلو، على اعتبار أن أصوات «الشعب الجمهوري» تُراوح ما بين الـ25% و27%، وتُضاف إليها نسبة من 12% إلى 15% لـ«الحزب الجيد» بزعامة مرال آقشينير، ومن ثمّ أصوات الحزب الكردي، لتضمن المعارضة بهذه الأصوات فقط، الفوز برئاسة الجمهورية، وبفارق مريح.
غير أن النتائج جاءت بخلاف المتوقَّع، إذ لم يتحوَّل «الشعوب الديموقراطي»، كما كان يأمل ويريد، إلى حزب «بيضة القبان»، فيُسقِط بضربة قاضية وواثقة «رأس النظام الفاشي»، كما سبق له أن وصف حُكم الرئيس رجب طيب إردوغان. ومن هنا تحديداً، كانت خيبة الأمل الشديدة والكبيرة لدى الحزب خاصة، والمعارضة بوجه عام. والواقع أن ثمّة مجموعة عوامل لعبت دوراً في إضعاف «الشعوب» وإرباكه على مدى السنتَين الأخيرتَين، وصولاً إلى انتخابات الـ14 والـ28 من أيار الجاري، وهذه العوامل يمكن إجمالها بالآتي:
1- في المبدأ، تعاملت السلطات السياسية، في العقود الأخيرة كما في عهد «حزب العدالة والتنمية»، مع الحالة الكردية السياسية على أنها مجرّد امتداد لـ«حزب العمال الكردستاني»، وواجهته السياسية. لذلك، كانت الأحزاب السياسية الكردية تخضع لملاحقات قضائية على الصعيدَين الحزبي والفردي. وغالباً ما كانت المحكمة الدستورية تُغلق الحزب القائم الممثِّل لهذه الحالة، بتهمة التعاون والترويج لـ«إرهاب» «العمال الكردستاني»، لتجد الحركة الكردية نفسها، مرّة تلو أخرى، أمام حلقة مفرغة من إغلاق أحزابها وإرباكها تنظيميّاً وتكسير قادتها تارةً عبر السجن، وتارةً أخرى عبر التشهير.
من غير المتوقّع أن يتغيّر النهج المعادي للأكراد بكتلتهم الرئيسة في السنوات الخمس المقبلة


2- بالنسبة إلى انتخابات أيار 2023، بدأت حملة تكسير أذرع «الشعوب الديموقراطي» منذ انتهاء الانتخابات البلدية عام 2019، وسيطرة الحزب على غالبية البلديات الكبرى والصغرى في المحافظات ذات الكثافة الكردية؛ إذ لم تمضِ أسابيع قليلة، حتى كانت حكومة النظام الرئاسي تقيل تباعاً العشرات من رؤساء البلديات الأكراد، وتعيّن مكانهم أشخاصاً تابعين لوزير الداخلية، أو مَن يسمّى بالتركية «قيّوم»، أي قائم مكان المُقال، بما يفقد رئيس البلدية نفوذه. والجدير ذكره، هنا، إلى أن القانون لا يتحدّث عن انتخابات جديدة، بل عن تعيين «قيّوم» بدلاً من رئيس البلدية المُقال.
3- لم تكتفِ السلطة السياسية بإقالة رؤساء البلديات الأكراد، بل أودعت السجن عدداً كبيراً منهم، كما العديد من زعماء الحزب الكردي أنفسهم؛ ومن ذلك على سبيل المثال، حبس رئيس «الشعوب» السابق، صلاح الدين ديميرطاش (2017)، بتهمة التعامل مع «الإرهاب الكردي»، وهو ما لم يكن عبثيّاً، إذ يُعدّ ديميرطاش شخصيّة محبوبة وذكية ومثقّفة وذات كاريزما، يمكن لها أن تقود الحالة الكردية.
4- مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية والرئاسية في 18 حزيران 2023، قبل أن تُقدَّم إلى 14 أيار، كانت المحكمة الدستورية تذهب إلى خطوة أبعد وأخطر، وهي فتح دعوى قضائية ضدّ «الشعوب» من أجل إغلاقه بتهمة التعاون مع «العمال الكردستاني». وعلى إثر حديث زعيم «حزب الحركة القومية»، دولت باهتشلي، في آذار 2021، عن «ضرورة» حظر الحزب الكردي، تحرّك المدعي العام وتقدّم بدعوى إغلاقه إلى المحكمة الدستورية. ومع اقتراب انتخابات 2023، تحرّكت الدعوى مجدّداً، فأعطت المحكمة الدستورية مواعيد دقيقة وحسّاسة لجلسات الدفاع والاستماع، بحيث أصبح في إمكانها تالياً أن تغلق الحزب لحظة تشاء، وهو ما أربك الأخير وجعله يُدرج مرشّحيه للانتخابات النيابية في لوائح حزب آخر، هو «حزب اليسار الأخضر» الكردي.
تُضاف إلى تلك العوامل، أسباب مباشرة أدّت إلى تراجع الحزب الكردي في الانتخابات الأخيرة، وهي:
1- اعتراض زعيمة «الحزب الجيّد»، مرال آقشينير، على التحالف مع «الشعوب» الذي تعتبره انفصالياً وامتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني». ومع أن آقشينير غيّرت رأيها لاحقاً، تحت ضغط أطراف المعارضة، غير أن بعض أركان «الجيّد» لم يكن مرتاحاً لهذا التعاون.
2- بعد انتهاء الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، توصّل كيليتشدار أوغلو، قبل أيام من موعد الدورة الثانية، إلى اتّفاق مع زعيم «حزب النصر» القومي المتشدّد، أوميت أوزداغ، أملاً في الحصول على أصوات قاعدته الناخبة، والبالغة 2.5%. لكن الاتفاق المذكور نصّ على التشديد على «محاربة الإرهاب الكردي»، كما أنه برّر الاعتقالات في صفوف رؤساء البلديات الأكراد، وتعيين «قيّوم» بدلاً منهم «بما ينسجم مع القانون». وأصاب هذا البند «الشعوب» بصدمة فعليّة، ودفعه إلى اعتباره نوعاً من «الخيانة» من جانب مرشّح المعارضة. مع ذلك، تمسّك الحزب بالتصويت لكيليتشدار أوغلو، على اعتبار أن الأولوية هي إسقاط إردوغان. لكن ما تقدَّم، أورث غضباً داخل «الشعوب» ربّما يكون أثّر على تراجع التصويت في الوسط الكردي.
3- على الرغم من اتفاق كيليتشدار أوغلو - أوزداغ، ذهب الأكراد بكثافة إلى صناديق الاقتراع في الجولة الثانية، ولم تتراجع نسبة التصويت عندهم سوى بـ2 - 5 نقاط، لم تكن لتزيد أصلاً من حظوظ زعيم «الشعب الجمهوري» في الفوز. لكن مجرّد أن ينال الأخير، في معدّل وسطي، 70% من أصوات الأكراد، يُعدّ أمراً مهمّاً، لأن الأصوات الكردية التي حصل عليها في المقابل رجب طيب إردوغان، وهي 25% - 30%، ليست جديدة، بل هي متوسّط نفوذه وحزبه وسط الحالة الإسلامية الكردية. لذلك، فإن الاستياء الكردي انصبّ على الحالة القومية التركية، خصوصاً «الحزب الجيّد»، الذي لم يُرد بحسب بعض الآراء إنجاح كيليتشدار أوغلو، وهذا ما قد يفسّر ضآلة الأصوات التي نالها مرشّح المعارضة من «الجيّد» مقارنة بما كان متوقّعاً، وربّما ذهابها لصالح «حزب الحركة القومية» أو إلى سنان أوغان.
على أيّ حال، تنكبّ كل الأحزاب التي فشلت، ومنها «حزب الشعوب الديموقراطي»، على إجراء نقد ذاتي. غير أن الأكراد «لن يذعنوا للدكتاتورية المستمرّة، على رغم كلّ الضغوط والدعايات القذرة»، وفق ما جاء في افتتاحية صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» المؤيّدة للحزب الكردي، والتي اعتبرت أن «إردوغان فاز بالرئاسة للمرّة الثالثة بأصوات الغالبية التركية السنيّة». وتوّجت عنوانها الرئيس بمانشيت: «لسنا جمهوره وليس هو رئيس جمهورية للأكراد». والواقع أن النهج المعادي للأكراد بكتلتهم الرئيسة، والمستمرّ منذ 20 سنة، من غير المتوقّع أن يتغيّر في السنوات الخمس المقبلة، خصوصاً بعد الحملة العنيفة التي شنّها إردوغان، إثر فوزه، على «سيلو» (ديميرطاش)، متعهّداً بعدم إطلاق سراحه، فأجابه أنصاره بالدعوة إلى إعدامه وسط رفع قبضات «رابعة والذئب».