تَوجّه ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، أمس، في زيارة رسمية لواشنطن تستمرّ يومين، يلتقي خلالها الرئيس الأميركي، جو بايدن، وعدداً من كبار المسؤولين. ويسعى الزعيم البريطاني إلى تصحيح الصورة المتشكّلة حول بلاده في ذهن الإدارة الأميركية بعد خروج لندن من عضوية الاتحاد الأوروبي، وفي أعقاب سلسلة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية الأخيرة التي كشفت عن تراجع مكانة المملكة المتحدة في المنظومة الغربية والعالم على حدّ سواء. على أن المصادر الأميركية أكدت أن تحدّيات اللحظة الأوكرانية طغت على المناقشات.
يحاول ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، جاهداً، العمل على إقناع الحلفاء قبل الخصوم، بأن المملكة المتحدة، على رغم سلسلة من الاضطرابات السياسية في قمّة هرم السلطة التنفيذية فيها، وسلّة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة التي تعانيها، لا تزال لاعباً مهماً ومؤثّراً على مسرح السياسة الدولية. وفي هذا السياق، طار سوناك، الثلاثاء، إلى الولايات المتحدة، في زيارة رسمية يلتقي خلالها الرئيس جو بايدن وعدداً من كبار المسؤولين الفيدراليين. وتقول لندن إن رئيس الوزراء سيحاول إقناع الجانب الأميركي بأن لبريطانيا دوراً أساسياً لتقوم به في إدارة أمن النظام العالمي - الذي يتعرّض لأكبر تهديد له منذ الحرب العالمية الثانية بسبب الصراع المفتوح في أوكرانيا -، وحثّ الإدارة في واشنطن على إشراك المملكة في صياغة إطار تنظيمي للذكاء الاصطناعي، والحصول على استثناءات تفضيليّة للشركات البريطانية في ما يتعلّق بالسياسات الحمائيّة، والدّعم الذي تقدّمه حكومة الولايات المتحدة لصناعاتها الخضراء، وكذلك دعم ترشيح وزير الدفاع البريطاني، بين والاس، لمنصب الأمين العام لـ«حلف شمال الأطلسي» (الناتو). وتعمل واشنطن، بالفعل، مع بروكسل، على تنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي، ومحاولة فرض قيود على وصولها إلى الآخرين، فيما لم تُشرك لندن إلى الآن. ويرى الخبراء في ذلك علامة إضافية على أن العلاقة التاريخية المميّزة بين الجانبَين الأميركي والبريطاني أصبحت بالفعل في حيّز التاريخ، وأن أهميّة لندن بالنسبة إلى الأميركيين لم تَعُد أبداً كما كانت، لأسباب موضوعية بحتة.
وظلّت بريطانيا تاريخياً بوّابة الأميركيين لأوروبا وصوتهم داخل الاتحاد الأوروبي، لكن موجة من العنجهية الانعزالية التي أطلقها اليمين البريطاني انتهت إلى إخراج المملكة من عضوية الاتحاد الأوروبي (2020)، ما نقل الثقل الاستراتيجي - في نظر الأميركيين على الأقلّ - إلى برلين وباريس. وأثار بايدن، في تشرين الأول الماضي، سخرية المعارضة البريطانية عندما أشاد بمن دعاه «رشيد سانوك» - وكان قصده ريشي سوناك - كثالث رئيس وزراء لبريطانيا خلال شهرين، ما اعتبره كثيرون أصدق تعبير عن تراجع مكانة لندن دولياً. وسافر الرئيس الأميركي لاحقاً إلى بلفاست في زيارة شخصية، قالت الصحافة إنها هدفت أيضاً إلى التيقّن من أن الخلل السياسي في السلطة التنفيذية في المملكة المتحدة لا ينعكس سلباً على «اتفاقية الجمعة العظيمة» التي أنهت عقوداً من الصراع المسلّح في الإقليم الإيرلندي الشمالي - تحتلّه لندن وتمنع توحّده مع الجمهورية الإيرلندية -. ورفضت مصادر أميركية، في حينه، تكهّنات صحافية بأن سياسة إدارة بايدن «معادية لبريطانيا» و«منحازة إلى الإيرلنديين»، وأصرّت على علاقات التحالف الوثيقة بين البلدين «في المجالات كافة». وكانت إيرلندا الشمالية أيضاً موضع جدل كبير في إطار المفاوضات بين لندن وبروكسل، لكن سوناك دفع في اتّجاه حلول وسط لإطفاء المسألة وقدّم تنازلات. وانضمّت لندن إلى عواصم أوروبية عدة انتقدت سياسة بايدن في دعم الصناعات الخضراء الصديقة للبيئة في بلاده، واعتبرتها «حمائيّة» ومضرّة بالصناعة على الجانب الآخر من الأطلسي، فيما يطمح سوناك إلى استغلال زيارته لواشنطن للحصول على معاملة تفضيلية للشركات البريطانية، بحيث تبقى السوق الأميركية متاحة أمامها.
من المتوقّع أن يزور بايدن المملكة المتحدة في وقت لاحق من العام الحالي، بعد قبوله دعوة من الملك تشارلز الثالث له


لقاء سوناك – بايدن في واشنطن سيكون عمليّاً الخامس بينهما منذ تولّي الأوّل منصب رئيس الوزراء قبل ثمانية أشهر، فيما يبدو أن الملفّ الأوكراني يطغى على المناقشات بشكل أو بآخر، ولا سيّما مع اقتراب الحملات الانتخابية الأميركية، واقتراح الرئيس (الجمهوري) السابق، دونالد ترامب، التوسّط بسرعة بين كييف وموسكو لإنهاء الأعمال العسكرية. وتفضّل إدارة بايدن أن يتولّى الحلفاء الأوروبيّون تسليح الجيش الأوكراني خلال الأشهر التي تسبق الانتخابات الرئاسية - أقلّه في العلن - تجنّباً لاستفادة الجمهوريين من ضعف الاهتمام المحلّي بالحرب، بينما يحاول البريطانيون تقديم أنفسهم كأكثر حلفاء واشنطن حماسة للقيام بهذه المهمّة نيابةً عن الأميركيين. وتطوّع سوناك للقول بأنه «ليس هناك شيء مستبعد» عندما يتعلّق الأمر بتقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، لكن الحقيقة أن لدى بريطانيا القليل ممّا يمكن أن تفعله بشكل إضافي. وتُدرّب بريطانيا، منذ سنوات، جنود الجيش الأوكراني، وتقدّم لنظام كييف دعماً استخبارياً ومادياً، وهي أرسلت صواريخ طويلة المدى ومعدّات عسكريّة متنوّعة، وسمحت بمشاركة مرتزقة ومتطوّعين بريطانيين في القتال، وأعلنت استعدادها لتدريب طيّارين على قيادة طائرات «إف-16» الأميركية الصنع، لكن الأوكرانيين يعتمدون بشكل أكبر على الدعم الألماني والفرنسي. كذلك، عرضت بريطانيا إرسال دبابات «تشالنجر» الثقيلة، إلّا أن كييف والحلفاء كانوا متّفقين على أن «ليوبارد» الألمانية هي الأنسب للمرحلة الحالية.
وتمرّ الحرب الأوكرانية بنقطة محورية، حيث يريد الحلفاء من كييف الانتقال من وضع الدفاع إلى شنّ هجوم مضاد، فيما يحتاج الحلفاء، بشكل يائس، إلى نجاح هذا الهجوم. ويقول الأميركيون إن «إدارة الرئيس بايدن واثقة من أن الولايات المتحدة فعلت كلّ ما في وسعها خلال الأشهر الستة أو الثمانية الماضية أو أكثر للتأكّد من أن لدى كييف جميع المعدّات والتدريب والقدرات»، ما فُهم على أنه ضغط على بقيّة الحلفاء لعمل الباقي من أجل إنجاح الهجوم. ويُعتقد أن سوناك سيحاول، خلال اجتماعاته مع بايدن، إظهار بلاده كمرشّح طبيعي لتولّي القيادة في هذا الاتجاه. وهو سيدفع إلى ذلك بترشيحه لوزير دفاعه لخلافة النرويجي ينس ستولتنبرغ، في منصب الأمين العام لـ«الناتو»، خلال قمّة الحلف في فيلنيوس (ليتوانيا) الشهر المقبل. ووصف سوناك وزيره والاس بأنه «يحظى باحترام واسع بين زملائه في جميع أنحاء العالم، وخاصة للدور الذي قام به في أوكرانيا». على أن الأميركيين لا يبدون حماسة لهذا الترشيح في ما يبدو؛ إذ التقى بايدن رئيسة وزراء الدنمارك، ميتي فريدريكسن، وهي مرشّحة قويّة للمنصب، قبل لقائه سوناك، فيما تميل أكثريّة الحلفاء إلى تفضيل تصعيد مرشّحة أنثى من إحدى دول أوروبا الشرقية بعد عقود من سيطرة الذكور من غرب وشمال أوروبا على المنصب. ولا يمتلك والاس فرصة حقيقية إذا لم تدعمه واشنطن وباريس تحديداً، والأخيرة أبدت فتوراً تجاه ترشيحه.
ومن المتوقّع أن يزور بايدن المملكة المتحدة في وقت لاحق من العام الحالي، بعد قبوله دعوة من الملك تشارلز الثالث له. على أن الخبراء يقولون بأنّ تلك الرحلة ستكون ضمن برنامج الدعاية الانتخابية للتجديد لبايدن، أكثر منها منصّة لتغيير السياسة البراغماتية التي يتعامل بها الأميركيون مع تضاؤل أهمية بريطانيا استراتيجياً.