ربّما أراد إبراهيم قالين أن يعرّف عن نفسه - جزئيّاً - أمام الرأي العام، عندما استعاض عن البروفايل الأسود له على «تويتر»، بآخر يَظهر فيه نصف وجهه فقط. لكن قالين لم يكن بحاجة هذا التعريف، لأنه كان - ولا يزال -، منذ وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة عام 2002، واحداً من المحيطين بزعيمه رجب طيب إردوغان، وسائر مسؤوليه. لم يُعرَف عن قالين تولّيه منصباً رئيساً أو محدّداً، ولكنه كان موجوداً في كلّ مكان بصفة مستشار أو غيرها من صفات. وغالباً ما كان ناشطاً في وسائل الإعلام وفي المنتديات، كما في العلاقات مع الدول الأخرى وفي ما بينها، وفي المهامّ الخاصّة التي كان يكلَّف بها. ولعلّ دراسته للدكتوراه في الولايات المتحدة، شكّلت عاملاً مساعداً ليصبح أحد أبرز صلات الوصل بين أنقرة وواشنطن، وليكون في موقع مستشار الأمن القومي، إلى أن اتّخذ صفة دائمة، هي الناطق باسم الرئاسة التركية.عُرف عن قالين أيضاً تمتّعه بصفات الهدوء والحيوية والقدرة على التواصل المحبّب مع الآخرين. وغالباً ما شكّل ثالوثاً رأسه إردوغان وضلعه الثاني حاقان فيدان، رئيس الاستخبارات الذي أصبح وزيراً للخارجية. ولطالما قام الرَجل بمهامّ لم تُثر ضجيجاً في العديد من البلدان، ولا سيما لدى دول المعسكر الغربي. ولكنه لم يهمل الدول الشرق أوسطية، وخصوصاً تلك المجاورة لتركيا، إذ عَرف شخصيّاً معظمها. وفي تموز من عام 2010، زار لبنان بدعوة من «مركز العزم الثقافي» التابع لرئيس الحكومة اللبنانية، نجيب ميقاتي، للمشاركة في ندوة كان طرفاها الآخران النائب التركي السابق سعاد كينيكلي أوغلو، وكاتب هذه السطور. وبعد اندلاع الأزمة في سوريا، لعب دوراً في توضيح موقف بلاده منها، من خلال إجراء الكثير من اللقاءات مع نُخب عربية في أنقرة وإسطنبول.
في الـ27 من نيسان الماضي، نُشرت صورة أثارت تكهّنات كثيرة حول ملامح المرحلة المقبلة، وما ستحمله للرجل. كان ذلك يوم اتّصل إردوغان بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، ليدعوه إلى المشاركة في تسليم شحنة وقود نووية للمفاعل النووي في مرسين، والذي بناه الروس. ما لفت في الصورة التي وُزّعت آنذاك، أنها ضمّت كلّاً من مدير القلم الخاص بإردوغان حسن دوغان، والمترجم، وموظّف أمن، إضافةً إلى رئيس الاستخبارات حاقان فيدان، ونائب الرئيس فؤاد أوكتاي، ومستشار الأمن والسياسة الخارجية الناطق باسم الرئاسة إبراهيم قالين، إضافة إلى الرئيس. لكن أهمّ ما فيها، هو مَن لم يكن حاضراً فيها، أي وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، ووزير الدفاع خلوصي آقا، ما شكّل مؤشّراً قويّاً إلى تراجع دور الأخيرَين، وتقدُّم فيدان وقالين إلى الواجهة.
صدر مرسوم تعيين قالين رئيساً للاستخبارات، مساء الإثنين الماضي (5 حزيران)، وذلك بعد يومَين من صدور مرسوم تشكيل الحكومة والإتيان بفيدان لـ«الخارجية»، وبرئيس الأركان ياشار غولر لـ«الدفاع». وبعد تعيينه، غرّد عبر «تويتر»: «من أجل بلدي الجميل لا توقُّف، الطريق يتواصل». وبعدها بيوم، كتب: «سنواصل العمل من أجل تركيا قوية وآمنة ومستقلّة». ولمناسبة فتح القسطنطينية في الـ29 من أيار الفائت، غرّد قائلاً: «الفتوحات لا تنتهي. والفاتحون عندنا لا ينتهون. يسقط واحد ويحيا ألف. ومع كلّ يوم يمنحون الثقة للصديق والرعب للعدو. فسلاماً لمن يحيون روح الفتح. سلاماً للقائد العظيم ورجل الدولة السلطان محمد الفاتح خان ولكلّ جنوده». وفي الـ21 من أيار، كتب منتقداً الإجراءات الإسرائيلية ضدّ المسجد الأقصى: «إن اقتحام وزير الأمن الإسرائيلي الحرم الشريف أمر لا يمكن قبوله. ونحن ندين بشدّة هذا العمل التحريضي غير القانوني. وسنواصل العمل ضدّ كلّ محاولات تغيير الواقع الديني والقانوني للمسجد الأقصى». وفي الـ9 من أيار، غرّد مندّداً بالاعتداءات الإسرائيلية: «(إنّنا) نلعن اعتداءات إسرائيل على شريط غزة وقتْلها 13 فلسطينياً بينهم أطفال ونساء. يجب أن تتوقّف الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. تركيا تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني في قضيته المحقّة».
وقالين المولود عام 1971، تعود جذوره إلى محافظة أرضروم، في أقصى الشرق التركي. وقد أنهى إجازة في التاريخ في جامعة إسطنبول، ثمّ تابع دراسته العليا في الفكر الإسلامي في إحدى جامعات ماليزيا. وحصّل الدكتوراه في جامعة «جورج واشنطن» عام 2002، في مجال الفلسفة، ثمّ عمل باحثاً في مركز الدراسات الإسلامية في وقف رئاسة الشؤون الدينية التركية. وأعطى محاضرات في جامعتَي «جورج واشنطن» الأميركية و«بيلكنت» التركية، حول العلاقات بين الإسلام والغرب والفكر الإسلامي. ولاحقاً، بين عامَي 2005 و2009، تولّى رئاسة وقف أبحاث السياسة والاقتصاد والمجتمع. وله كتاب نُشر عام 2007 حول «الإسلام والغرب»، نال عليه «جائزة الفكر» من «اتحاد كتّاب تركيا» ذي النزعة الإسلامية (وهو غير اتحاد الكتّاب الأتراك وغير نقابة الكتّاب الأتراك)، كما له مؤلّفات أخرى فلسفية وحول العلاقة بين الإسلام والغرب. وفي عام 2011، عُيّن عضواً في هيئة إدارة جامعة «أحمد يسوي»، ودرّس في جامعة «ابن خلدون» اعتباراً من عام 2019، ونال صفة بروفسور عام 2020. ومن هواياته، عزف الموسيقى، ولا سيما على آلة الغيتار.
على المستوى السياسي، عُيّن قالين كبير مستشاري رئيس الحكومة عن الشؤون الخارجية في عام 2009. وفي العام التالي، أصبح منسّقاً لمنسّقية الديبلوماسية العامة في رئاسة الحكومة، قبل أن يُعيَّن ناطقاً باسم الرئاسة عام 2014، بعد فوز إردوغان بالرئاسة في آب من ذلك العام، ومن ثمّ مستشاراً للأمن القومي والسياسات الخارجية عام 2018. وفي الأشهر الأخيرة، لعب الدور الأبرز في مسألة انضمام فنلندا والسويد إلى «حلف شمال الأطلسي»، وتأسيس آلية مشتركة بين الدولتَين المذكورتَين وتركيا في حزيران 2022. كما كان مرافقاً لإردوغان في جميع أسفاره. وغالباً ما ينتقد قالين الغرب، إذ قال في مقابلة أجراها أخيراً مع صحيفة ألمانية، إنه، «وعلى الرغم من أن تركيا جزء من الأطلسي، و40% من تجارتها هي مع الاتحاد الأوروبي، و70% من الاستثمارات الأجنبية في تركيا من أوروبا، لكن أوروبا تنتقد تركيا من غير وجه حقّ»، آملاً في أن تنضمّ تركيا يوماً ما إلى الاتحاد الأوروبي، لكن «عدم حدوث ذلك لن يكون نهاية العالم». وفي المقابلة نفسها، أضاف أن تركيا على علاقة جيّدة مع روسيا «لكن ليس في كلّ الموضوعات. نحن على خلاف معهم حول ضمّ شبه جزيرة القرم، ولا نوافق على دور فاغنر في ليبيا وأوكرانيا ومالي... وفي سوريا، نحن لا ندعم نظام الأسد ولا نعترف بمشروعيته»، وأنه يريد «تركيا مستقلّة عن الارتباط بأيّ دولة أخرى».
وعن رئيس الاستخبارات الجديد، يكتب منصور آق غون، في صحيفة «قرار» المعارضة، إن التعيينات الجديدة من فيدان إلى شيمشيك إلى قالين «تعطي أملاً لتركيا متصالحة مع جيرانها». أمّا ندرت إرسانيل، في صحيفة «يني شفق» الموالية، فيقول إن الثلاثي حاقان فيدان وإبراهيم قالين وياشار غولر هم «ضمانة اتّباع تركيا سياسة خارجية مستقلّة ووطنية».