نزاع وصداقة لطالما وصما العلاقات الإيرانية ــ التركية. آخر الحروب بين الطرفين كانت إبان الحكم الصفوي لإيران، حين دارت المناوشات العسكرية مع الدولة العثمانية وسلاطينها، ولكن الخلاف العسكري لم يمنع التبادل الاقتصادي والتجاري والاجتماع بين الجانبين، فكانت العلاقات ندّية تتأزم بهدوء وتحلّ بهدوء.مع الوقت، انتقل الصراع من المواجهة المباشرة إلى أرض الغير، وتحوّل إلى خلاف على دعم حكم في دولة تعتبر عمقاً استراتيجياً لكلا البلدين. وفي هذا المجال، يعدّ الخلاف على الملف السوري جذرياً وعميقاً، وطرق حلّه تختلف كلياً بين الجانبين، ذلك أن طهران تعرف جيداً أن المدفعية التركية تستهدف مجهودها العسكري الاستشاري والميداني في سوريا، فيما تدرك تركيا أن الوجود الإيراني عامل أساسي في صمود الحكم في سوريا.
وتأتي زيارة رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو لطهران، في الوقت الذي ضيّق فيه التقدم الميداني الكبير في الجغرافيا الحلبية الكثير من باب الخيارات التركية، وبات الوجود العسكري الإيراني في مرمى النيران التركية. يعني ذلك أن طهران لن تتهاون في الرد بأساليبها على هذا التهديد، الذي يطاول حياة عناصرها العسكرية في الميدان، إضافة إلى سعيها للحفاظ على القدرات العسكرية لحلفائها على الأرض.
بإمكان إيران أن تلعب دوراً في خفض التوتر التركي ــ الروسي

أحمد داود أوغلو قرّر التوجه إلى إيران حاملاً معه ملفات اقتصادية، بالدرجة الأولى، وهو يعلم أنه رغم الإعلان عن أن الزيارة تجارية وودية إلا أنها لن تخلو في جلساتها المغلقة من الحديث عن الشأن السوري والعراقي. هو يدرك جيداً أن له في إيران أصدقاء كثراً، وقد أقام شبكة علاقات عندما قاد الاتفاق النووي الثلاثي، برعاية تركية ــ برازيلية، في عام 2010، كما كان المحرّك في تقريب وجهات النظر بين طهران والغرب، ولعب دوراً في تلك المرحلة كاد يؤدي إلى التوصل إلى اتفاق بشأن تبادل اليورانيوم، لولا العرقلة الأميركية والإسرائيلية للمشروع بدعم من بعض الدول العربية الجارة لإيران. وبالتالي يعرف داود أوغلو جيداً العقلية الإيرانية، وقد خاض معها ساعات من التفاوض عندما كان وزيراً للخارجية.
بناء عليه، حمل الملفات الخلافية لبلاده وقدم مغريات تجارية لطهران في مجالات الاستثمار والنقل البري والتجارة المتبادلة والطاقة والترانزيت، وأراد في المقابل حلّ بعض الخلافات. البيانات الرسمية لم تتحدث عن تفاصيل زيارته المدججة بفريق إعلامي واقتصادي كبير لطهران، الأمر الذي يشير إلى أن الوفد التركي حاول التوصل إلى اتفاق في موضوع الغاز، والتوفيق بين التعويضات الإيرانية المطلوبة من تركيا والبند الجزائي التركي الواجب على إيران في إطار تصدير الغاز الإيراني إلى تركيا. وما يدفع إلى حلّ في هذا الاتجاه، هو أن أنقرة تأثرت بالعقوبات الروسية، وبعدما رفعت السقف في المطالبة بالبنود الجزائية من إيران، عادت للحديث عن العلاقات الجيدة وحاجة تركيا للغاز الإيراني وأيضاً حاجة إيران للترانزيت التركي نحو أوروبا.
ولكن مع ذلك، لا يمكن فصل العلاقات الاقتصادية عن السياسية، ولا سيما أن طهران الخارجة حديثاً من تجربة تفاوضية، استمرت ثلاثة عشر عاماً، تعرف أن المغريات المقدمة من تركيا لن تؤثر على الموقف الإيراني، حتى لو تقرّر رفع مستوى التبادل التجاري إلى ثلاثين مليار دولار خلال عامين، فصناع القرار في إيران يرفضون، كما رفضوا سابقاً، أي مقايضات خارج إطار الملف التفاوضي، ما يعني أن طهران لن تدخل ملف علاقاتها مع تركيا وفتح الأسواق لها في بازار التسويات، فيما تسعى إلى فصل المسارات الثنائية عن الإقليمية.
وفي هذا الإطار، يعد الاحتواء الإيراني للأتراك والترحيب بداود أوغلو وإبلاغه استعداد الجمهورية الإسلامية لفتح أبواب التعاون معه، محاولة لاستيعاب الاندفاعة التركية الطائشة في سوريا والتخبط الحاصل لدى الأتراك بالتوازي مع دعمهم خيار التدخل العسكري البري في سوريا نتيجة الضغط الكبير الذي شكلته معركة حلب وريفها وانكفاء فعالية المطالب التركية شمال سوريا.
أيضاً، تحاول طهران إفهام القيادة التركية أن أي مواجهة على الأرض السورية لن تبقى في حدودها الجغرافية، وأن الاندفاعة وراء المطلب السعودي تشكل انتحاراً عسكرياً وسياسياً. وفيما لم تتعاطَ مع كل من تحاورهم من خصومها سورياً بلغة المنتصر، إلا أنها تحاول امتصاص غضب الطرف الآخر بعدم استفزازه ومواجهته بالإنجازات الميدانية وتركه يقرأها بطريقته الخاصة. وفي مقابل ذلك، تدرك أنقرة جيداً أن ما بين طهران وموسكو أكبر من حلف عسكري في سوريا، وسيكون له تداعيات في إعادة رسم موازين القوى وتوزيعها في المنطقة، وبالتالي هي تعرف أن بإمكان إيران لعب دور في خفض التوتر التركي ــ الروسي، وخصوصاً أن مساعد وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف يعقد مع نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان اجتماعات في طهران، ستشمل الملف السوري والعراقي واليمني، إضافة إلى التطورات الأخيرة في موضوعَي الهدنة والحوار السياسي، اللذين سيشكلان خطين متوازيين على طريق تحقيق خرق يؤسس لبوادر حلّ حقيقي للأزمة السورية.