إثر إعلان بكين خطتها الخمسية الثالثة عشرة، انتقد موقع «بلومبرغ»، مثلاً، ما وصفه بـ«إدمان الصين للنمو»، و«إهمالها» تقليص الديون العامة والخاصة، مضخماً مسألة زيادة عجز الموازنة وارتفاع المديونية، نتيجة السياسة المالية والنقدية التوسعية. وزعم الموقع أن تحديد نسبة نمو من 6.5% كأساس للسنوات الخمس المقبلة يحد من الهامش المتاح للسياسات الاقتصادية، مكرراً، في الوقت نفسه، لازمة التذكير بأن النمو في الصين هو «الأدنى منذ ربع قرن». كما سعت الصحافة الغربية لأن تصوّر الانخفاض الحاد في احتياطي العملات الأجنبية لدى الصين بأنه «هروب للرساميل»، متجاهلة مشتريات الصين الواسعة لشركات وعقارات وأصول مختلفة حول العالم، وموجة تسديد شركات صينية خاصة لديونها بالدولار، بعد رفع الفائدة على هذه العملة.
التباطؤ النسبي للاقتصاد الصيني ناجم أساساً عن انخفاض الطلب الغربي

والأبرز في هذه الحملة كان ما صدر عن وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني، قُبيل إعلان بكين خططها الاقتصادية الجديدة. ففي مطلع الشهر الجاري، خفضت هذه الوكالة التصنيف الائتماني للصين من «مستقر» إلى «سلبي»، وذلك بذريعة زيادة المديونية فيها، وانخفاض احتياطي العملات الأجنبية، على الرغم من قوة المؤشرات الاقتصادية الأساسية للبلاد.
ونقلت صحيفة «ساوث تشاينا مورننغ بوست» عن تقرير أصدرته الوكالة المذكورة أن الصين محكومة بالفشل في واحد على الأقل مما وصفته بـ«الثالوث المستحيل» من أهداف التنمية والإصلاح والاستقرار، الواردة في الخطط المقدمة إلى البرلمان، وأن بكين باتت تسعى وراء تحقيق النمو والحفاظ على الاستقرار، على حساب الإصلاح، قائلة إن ذلك «وإن بدا أنه يقلص المخاطر على المدى القصير، فمن المرجّح أن يترك بلا علاج، على المدى الطويل، الاختلالات العميقة الظاهرة في الاقتصاد الصيني، ما يرفع أكلاف التصحيح». وأضافت المؤسسة أن التوسع في السياسة النقدية «سيؤدي إلى ضغوط نزولية» على اليوان، وأنه «سيؤخر خفض الدين، وهو ما تحتاج إليه الصين بشدة».

المؤشرات الاقتصادية الأساسية: حقائق عنيدة

المسؤولون الصينيون، ومعهم العديد من المحللين، يشيرون إلى سلامة المؤشرات الاقتصادية الأساسية، مستبعدين سيناريوات «الهبوط الحاد» للاقتصاد الصيني، المروَّج لها.
فحتى مجلة «ذي إيكونوميست»، التي ذهبت في عددها الأخير (12 آذار) بعيداً في انتقاد الصين، قائلة إن رقم الخطة الخمسية الأخيرة (13) فأل سيئ، لأن الاتحاد السوفياتي انهار عندما كان في طور تطبيق خطة خمسية تحمل الرقم نفسه، تنشر دورياً إحصاءات تؤيد ضمناً ما ذهب إليه المسؤولون الصينيون حول سلامة المؤشرات الاقتصادية الأساسية للبلاد. من بين المؤشرات المنشورة في عددها الصادر في الخامس من الشهر الجاري، تقدّر المجلة نمو الناتج المحلي للصين بـ+6.4%، مقارنة بـ+2% للولايات المتحدة و+0.8% لليابان و+1.5% لمنطقة اليورو، علماً بأن معدل الادخار، المحدِّد الأساس للنمو، لا يزال يُقدَّر بنحو 50% في الصين، وهو من الأعلى عالمياً.
وكذلك، فإن مؤشر ميزان الحساب الجاري للأشهر الـ12 الفائتة هو، بحسب المجلة نفسها، +293.2 مليار دولار للصين، مقارنة بـ-456.6% (سلبي) للولايات المتحدة، و+137.5% لليابان، و+343.1% لمنطقة اليورو. أما مؤشر نمو الناتج الصناعي، فتضعه المجلة عند +5.9% للصين، مقارنة بـ-0.7% (سلبي) للولايات المتحدة، و-0.3% لليابان (سلبي)، و-1.3% (سلبي) لمنطقة اليورو.
وفي مقابل خفض بعض المؤسسات الصناعية في الصين لعديد موظفيها، يوسّع قطاع الخدمات التوظيف، حيث نما هذا القطاع حتى وصل حجمه إلى أكثر من نصف الناتج المحلي في العام الماضي. ونما بنحو 11.6% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام نفسه، بحسب المجلة نفسها، في عددها الصادر في 16 كانون الثاني الماضي، والذي يشير أيضاً إلى أن مراكز التوظيف في كل أنحاء الصين تواجه نقصاً في العمال، حيث يوجد نحو 1.1 وظيفة شاغرة مقابل كل طالب وظيفة.
وفي العدد نفسه، تشير المجلة إلى أن الشركات الصينية أبرمت صفقات خارجية بقيمة 61 مليار دولار خلال العام الماضي، بنسبة أعلى بـ16% مقارنة بعام 2014، لافتة إلى أن هذه الصفقات لا تنحصر بشراء المواد الأولية، فبعضها كان لشراء شركات أوروبية ضخمة، كـ«بيريللي» و«سينجينتا».
إلى ذلك، تقول وكالة «رويترز»، في تقرير نشرته في التاسع من الشهر الجاري، إن مستثمري العقارات الصينيين «يشعلون الأسعار في العديد من كبرى مدن العالم»، وذلك «في شرائح شتى، من الأراضي في دبي إلى نُزُل الطلبة في مانشستر». وتوضح الوكالة أن الصينيين كانوا سابع أكبر المستثمرين العقاريين في دبي العام الماضي، حيث ضخوا 463 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من 2015، مقارنة بـ354 مليون دولار في عام 2013 بأكمله. وتضيف الوكالة أن الصينيين استثمروا في عقارات في نيويورك وسيدني نحو 6 مليارات و4 مليارات دولار، على التوالي، العام الماضي، ارتفاعاً من 1.2 مليار و3.5 مليارات دولار قبل عام.
وحول التخويف الغربي من «هروب الرساميل» من الصين، ينقل موقع «بلومبرغ» نفسه، في السادس من الشهر الجاري، عن بنك التسويات الدولية، وهو بمثابة مقاصة للمصارف المركزية العالمية، تأكيده أن خروج الرساميل من الصين منذ منتصف عام 2014، وتحديداً تسجيل ميزان الرساميل الخارجة والواردة انخفاضاً بقيمة 175 مليار دولار، في الفترة ما بين تموز وأيلول من العام الماضي، لم يكن هروباً للرساميل من البلاد، أو بيع المستثمرين الأجانب أصولاً صينية، بل كان بأكثره تسديد شركات صينية ديونها الخارجية بالدولار (كانت أسعار الفائدة على الدولار من الأدنى بين العملات الصعبة)، في استباق لرفع أسعار الفائدة على هذه العملة.
وتنقل صحيفة «بيبولز دايلي» الصينية، في عددها الصادر في التاسع من الشهر الجاري، عن مكتب الإحصاءات الوطني الصيني أن الأرقام الأخيرة تُظهر أن احتياطي العملات الأجنبية شكّل نحو 32% من الناتج المحلي، نهاية العام الماضي. وفي مقال في الصحيفة نفسها، في الرابع من الشهر الجاري، يؤكد الباحث في وزارة التجارة الصينية، ماي شين يو، أنه مع خفض بكين الحاد لاحتياطي العملات الأجنبية، فإن «الصين تملك عملة أجنبية أكثر من أي دولة أخرى، بكمية هي أكثر من كافية للإيفاء بالتزاماتها الخارجية»، وأن «خفض احتياطي العملات الأجنبية يعني تحسيناً لبنية الأصول الخارجية».
وردّاً على الانتقادات الغربية بشأن زيادة المديونية الصينية، يلفت ماي إلى اختلاف مديونية بلاده عن تلك الخاصة بالولايات المتحدة وأوروبا واليابان واقتصاداتٍ ناشئة أخرى، مشيراً إلى أن الاستثمارات تشكل نسبة كبرى من الإنفاق الحكومي الصيني، ما يعني أن ثمة أصولاً ثابتة تملكها الحكومة مقابل غالبية الدين، وأن نسبة الدين نفسها (وهي أدنى من تلك الخاصة بالولايات المتحدة مثلاً) تشكّل بالتالي عبئاً أقل على البلاد، مقارنة بمديونية الدول الأخرى.
ويتابع ماي قائلاً إن «التوسع المعتدل للعجز والدين الصينيين، ضمن القدرة على السداد، هو صحي للاقتصاد عامةً، وذلك أنه يشير إلى أن عرض السيولة في البلاد هو كافٍ لتلبية الطلب الناجم عن النمو الاقتصادي»، وأن «خلق العملة يعتمد بدرجة أقل على الدول الأجنبية؛ ونتيجة لذلك، بإمكان النظام المالي الصيني أن يكون أكثر استقلالية».
وبشكل أعم، تناقلت وكالات الأنباء أخبار اجتذاب الصين في العام الماضي نحو 126.3 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ولا سيما في قطاع الخدمات وقطاع صناعات التكنولوجيا المتقدمة، بزيادة نسبتها 6.4%، مقارنة بعام 2014، وذلك على الرغم من حملة التهويل بتباطؤ نمو الاقتصاد، والتي تتجاهل حقيقة أن هذا التباطؤ ناجم أساساً عن انخفاض الطلب على السلع الصينية والآسيوية عامة، من قبل أوروبا والولايات المتحدة خاصة.
وعلى مستوى الاستثمارات الصينية في الخارج، وفي أواخر كانون الثاني الماضي، مثلاً، أعلن الرئيس الصيني، تشي جين بينغ، من القاهرة، عزم بكين على تقديم قروض واستثمارات في دول الشرق الأوسط بنحو 55 مليار دولار، بعد توقيع اتفاقات تعاون مع مصر بلغت قيمتها 15 مليار دولار. وكان الرئيس الصيني قد أبلغ الرؤساء الأفارقة، خلال القمة الأفريقية الآسيوية في أواخر العام الماضي، تخصيص «60 مليار دولار، على مدى ثلاث سنوات، لتمويل خطط تنمية» في القارة السمراء.