لا تفوت الأحزاب السياسية الفرنسية أو وسائل الإعلام عادة الفرصة التي تمثّلها الهجمات والمشاكل الامنية على انواعها، للاستفادة منها في خطابها السياسي وربطها بخطاب أعم حول الهجرة والحدود، أو في حملات التخويف من صعود اليمين المتطرف التي تقودها الأحزاب التقليدية في الحكم.
لكن قراءة متأنية أكثر في المثال الأخير الذي شكلته انتخابات المناطق في فرنسا بعد هجمات 13 تشرين الثاني 2014، وخاصة لانها سبقت انتخابات المناطق بثلاثة اسابيع، تسمح بتعديل هذا الانطباع نسبيا. مباشرة بعد تلك الاعتداءات، سارعت الاحزاب والشخصيات السياسية الى اعلان شجبها لما حصل وتضامنها مع الضحايا، اضافة الى الوقف الفوري للحملات الانتخابية وعلى نحو استعراضي. تميز حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف بانتقادات كثيرة وجهها الى الحكومة والرئيس الاشتراكيَين، متهما إياهما بالتخاذل، ومثّل الظرف مناسبة للحزب للتأكيد مجدداً على الأفكار التي يطرحها والمرتبطة بانتقاد التحالفات الدولية لفرنسا مع دول تدعم الاسلام المتطرف كالسعودية، والموقف من النزاع السوري، اضافة الى مواضيع الهجرة والحدود والاتحاد الاوروبي.
ما كان الوقع الحقيقي للهجمات على الناخب الفرنسي خلال هذه الانتخابات؟ بداية وعلى نحو مباشر، فإن النتائج وحدها لا تكفي للاجابة عن هذا السؤال في ظل معطيين: الاول هو طبيعة قانون الانتخابات الاكثري الذي لا يسمح بالتالي بتمثيل دقيق للاحزاب السياسية، اضافة الى التكتلات الموضعية بين اليمين واليسار، التي منعت اليمين المتطرف من الفوز برئاسة مناطق كان هو الرابح الاول فيها لجهة نسبة المصوتين له.
الهجرة والأمن لا يمثلان أرضية كافية لتفسير صعود اليمين المتطرف

لا بد إذاً من الأخذ بعين الاعتبار مجموعة عوامل اخرى كنسبة المشاركة، والعامل او العوامل الحاسمة في الاختيار التي تضيء اكثر على مدى تأثير الهجمات، ومعها كل الخطاب السياسي اليميني حول قضايا الامن والهجرة، على الناخب على نحو عام.
أشار استطلاع للرأي جرى على مستوى كل فرنسا أواخر تشرين الاول، اي قبل الهجمات، الى تقدم واضح لليمين المتطرف في ظل ضعف "للحزب الاشتراكي" وتراجع لليمين التقليدي. أما في الاستطلاع الثاني، الذي جرى في 27 تشرين الثاني، أي في الفترة الممتدة بين حصول الهجمات وانتخابات المناطق، فقد أشار إلى صعود كبير لقضايا كالأمن والهجرة في اهتمامات الفرنسيين قبيل الانتخابات.
مثّلت الهجمات أيضاً دافعاً لنية المشاركة في هذه الانتخابات، بزيادة 5 نقاط عن الاستطلاع السابق، وبلغت النسبة الفعلية للمشاركة في الجولة الاولى 43.01%، لكن هذا الصعود نسبي إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ التقديرات الأولية لنسبة المشاركة ستكون حوالى 40%، وهي أدنى تقدير لأي انتخابات في تاريخ الجمهورية الخامسة (أي منذ عام 1958)، فيما بلغت نسبة المشاركة 58.53% في الجولة الثانية.
تجدر الإشارة إلى أمرين آخرين. الأول، تقدم عامل "التهديد الارهابي" في قياس دوافع التصويت، إذ بعدما كان هذا العامل يحل في المرتبة 14 (حوالى 9% من المستطلعين) في اول استطلاع، تقدم الى المرتبة الخامسة مع تقدم بحوالى العشرين نقطة، وهو أمر مفهوم تفسره الطفرة التي سببتها الاعتداءات. الأمر الثاني، هو ارتفاع نسبة التأييد للرئيس الفرنسي هولاند بعد الاعتداءات مباشرة، اذ ارتفعت نسبة التأييد الظرفي لحدود 70%، بعد ادارته للأزمة وسلسلة الإجراءات التي أعلنها، واعطت الانطباع بأنه رئيس غير متردد باتخاذ القرارات، بعكس الانطباع السائد عنه، لكن هذا التأييد لم ينعكس على حزبه، ففاز الاشتراكيون برئاسة 5 مناطق مقابل 7 لليمين وواحدة للقوميين الكورسيكيين. أما حزب "الجبهة الوطنية"، فلم يفز بأي منطقة بسبب التحالفات التي منعته وشكلت اغلبيات ائتلافية، لكن اللافت هو انه حاز 800 الف صوت لمصلحته بين الجولتين، وسجل رقما قياسيا جديدا لعدد المصوتين له في انتخابات عامة (6.82 ملايين ناخب)، بعد نتائج الجولة الاولى من الانتخابات الرئاسية في 2012، حيث حاز 6.42 ملايين صوت.
مما لا شك فيه أنّ النتائج وحدها تخفي حقيقة توزيع القوى ونسب التصويت بسبب طبيعة القانون، وتُظهر أن حزب "الجبهة الوطنية" أحرز تقدما واضحا في عدد المصوتين له. لكنّ الاعتداءات لم تمثّل إلا واقعا ظرفيا لم يكن ليتمكن وحده من السماح له بالتقدم بهذا الشكل. تماماً كعامل اللاجئين الذي أدّى دوراً في الانتخابات الألمانية الاخيرة في 13 آذار، مع صعود أحزاب اليمين المتطرف في بعض المقاطعات، من دون أن يمثّل هذا تهديدا جديا للأغلبية الديموقراطية ــ المسيحية الحاكمة.
وبالعودة إلى فرنسا، فصعود اليمين المتطرف مرتبط بعدة عوامل، منها الانكماش الاقتصادي والبطالة والنقاش حول نظام التقاعد، اضافة الى مسائل الهجرة والامن، التي لا تمثّل وحدها ارضية كافية لتفسير صعود هذا التيار السياسي في الانتخابات. فالاعتداءات وغيرها من التطورات الامنية تمثّل ظرفا مرحليا يؤثر حتما في الانتخابات، لكن على نحو محدود.
سيكون من المثير للاهتمام مراقبة نتائج أول استحقاق انتخابي في بلجيكا بعد الهجمات الاخيرة وبعد كل الجدل حول الواقع الذي تعيشه بعض الضواحي البلجيكية، لكن لا بد من الاشارة الى ان اقرب انتخابات، وهي انتخابات المجالس المحلية، ستُجرى في 2018، وهي بالتالي ستكون بعيدة جدا عن تأثير ما حصل منذ يومين، إلا إذا حصل تطور متزامن أو قريب زمنيا من الاستحقاق الانتخابي.
بالمحصلة، فإنّ ظاهرة صعود بعض أحزاب اليمين هي ظاهرة عضوية مرتبطة بسياقات عامة، خاصة بكل دولة، ولمسائل المهاجرين حصة فيها من دون أن تكون الأكبر أو الأكثر تأثيرا، بل على العكس غالبا ما تكون الاهتمامات الاقتصادية والمعيشية مؤثرة أكثر.