وافقت محكمة التمييز الفرنسية في 22 آذار الماضي على قسم كبير من محتوى الاتصالات الهاتفية المراقبة، بين الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، ومحاميه، تييري هيرزوغ. ما يفتح الطريق منطقيا امام امكانية مثوله للمحاكمة، وهي إن حصلت فلن تكون المرة الأولى التي يتعرض فيها لهذا الموقف.
الجدير بالذكر أن هذه القضية فرعية، بمعنى أنها فتحت بمعرض قضيتين سابقتين. الأولى هي التحقيق بشأن التمويل غير الشرعي الذي تلقاه ساركوزي من نظام القذافي لحملته الانتخابية في 2007. وهي ليست المرة الاولى التي يتهم فيها رئيس فرنسي، أقله سياسيا، بأمر متعلق بمصادر تمويل حملته الانتخابية، او بقضايا فساد وصرف نفوذ بشكل عام. أما الثانية، فهي قضية "بيتانكور" التي منعت فيها المحاكمة عن ساركوزي. ويذكر أن هذه القضايا انفجرت بوجه الرئيس السابق بعد خروجه من الايليزيه، وزوال الحصانة عنه، وقد جاءت الاخيرة في توقيت حساس متعلق بعودته الى الساحة السياسية بعد خسارته امام الإشتراكي، فرنسوا هولاند، في انتخابات 2012 الرئاسية.
وفي هذه القضية، أي قضية التنصت على المكالمات الهاتفية، فالرئيس الفرنسي كان على تواصل هاتفي مع محاميه، تييري هيرزوع، عبر خط تم شراؤه في مدينة نيس باسم مستعار، هو بول بيسموت، وكان قد وضع تحت المراقبة بشكل غير رسمي. تبين من مراقبة الخط، وتسجيل سبع مكالمات، سجلت بين 28 كانون الثاني و11 شباط 2014، بين بيسموت (ساركوزي) ومحاميه ان الرئيس السابق كان يحاول التأثير على عمل المحققين والقضاة عبر علاقة له مع احد قضاة محكمة التمييز، جلبير ازيبير، لمحاولة معرفة معلومات سرية في ملف التحقيق المتعلق بقضية بيتانكور، مقابل وعود للقاضي بدعمه للحصول على منصب مهم في موناكو في وقت لاحق. وقد حاول القاضي المذكور بناء على طلب الرئيس السابق التوسط لدى ثلاثة من قضاة محكمة التمييز العاملين في التحقيق في قضية بيتانكور تحديدا.
أما في قضية التمويل الليبي لحملته الانتخابية، فقد تلقى ساركوزي تحذيرا من القاضي المذكور بقرب حصول عملية تفتيش قضائي في مكتبه، ما مكنه من الاتصال بأحد محاميه طالبا منه "الاتصال بمراسله"، موضحا "انهم (اي الاشخاص الموكلين اجراء التفتيش) مجبرون على المرور به". وهو ما يظهر ان الشخص المعني لديه صفة قضائية مهمة، وان الرئيس السابق يتمتع بشبكة علاقات مهمة في القضاء والشرطة، موروثة من اقامته الطويلة نسبيا بين وزارة الداخلية وقصر الايليزيه.
المؤكد أن القضية لا تزال في طورها السياسي وأن الضرر السياسي واقع

بناء على هذه الاتصالات، فالتهمة التي قد توجه اليه هي "القيام بأعمال تخرق السرية المهنية" في قضية التمويل الليبي، و"رشوة احد قضاة محكمة التمييز" في قضية بيتانكور.
يذكر ان مسألة التنصت على ساركوزي ومحاميه، وبالتالي الاستناد الى محتوى التسجيلات في اي قرار اتهامي قد يصدر بحقه، او بحقهما، كانت موضع جدل متعلق بشرعية الدليل لكونه يعتمد على تنصت على المكالمات الهاتفية بين محامٍ وأحد موكليه. لكن محكمة استئناف باريس، وبعدها محمكة التمييز، لم تأخذا بعين الأمر بعين الاعتبار. فقد اعتبرت محكمة التمييز في قرارها الذي وافقت بموجبه على كل مضمون المحادثات الهاتفية تقريباً، أن لا شيء قانونيا يمنع التقاط وتسجيل وتدوين محتوى اتصال بين محامٍ وشخص اخر، تحت المراقبة الهاتفية القانونية، لكون المحامي لا يترافع عنه، ولكونه ليس متهما أو حتى قيد التحقيق في إطار الإجراءات ذات الصلة.
أثار هذا القرار حفيظة محامي ساركوزي بطبيعة الأحوال، وحفيظة نقيب محامي باريس، الذي اعتبر أن مضمونه يعني عملياً أن المحامي الوحيد الذي لا يمكن التنصت عليه هو محامي أحد المتهمين جزائياً، وأنه بعد هذا القرار فلا حصانة لسر في مجال الأعمال أو الاقتصاد. ردة الفعل هذه ليست متعلقة فقط بآداب مهنية واعتبارات قانونية، بل تغذيها أيضا بعض التسجيلات بين محامي ساركوزي ونقيب محامي باريس، النقابة التي ينتمي اليها، وان كانت محكمة التمييز قد استبعدت هذه التسجيلات من الملف.
تقنياً، فإن محتوى الاتصالات قد جرت الموافقة عليه، وبات قابلاً للاستخدام في أي ادعاء محتمل، وساركوزي ينتظر قرار القضاة الذين وضعوا يدهم على الملف، ليرى ما إذا كانوا سيوجهون اليه تهمة، أو يمنعون المحاكمة لعدم كفاية الدليل او لاي تعليل قانوني اخر، وهو ما سيحاول الحصول عليه بأسرع وقت، نظرا لاقتراب الاستحقاق الرئاسي.
إنما من المؤكد الآن أن القضية لا تزال في طورها السياسي، وأنه بغض النظر عن أي منحى قضائي ستأخذه الامور، فإن الضرر السياسي واقع، وخاصة أن للرئيس الفرنسي سوابق مع القضاء، كالقضيتين المذكورتين او قضية "بيغماليون"، لكن منع المحاكمة سيكون أقل ضرراً بطبيعة الحال من أي اتجاه آخر للسير فيها بغض النظر عن أي إدانة محتملة، وخاصة اذا كانت الادانة عدم الاهلية للترشح للانتخابات. فأمام ساركوزي استحقاقان مرتبطان، هما الانتخابات التمهيدية داخل حزبه، لتسمية مرشح الرئاسة العتيد، ثم الانتخابات الرئاسية نفسها، ربيع 2017، في حال فوزه بالاولى.
أخيراً لا بد من الاشارة الى ان الرئيسين السابقين، جاك شيراك، وساركوزي، يتشاركان ميزة كونهما اول رئيسين سابقين يمثلان امام القضاء، بعد خروجهما من السلطة، منذ محاكمة لويس السادس عشر سنة 1792، خلال مراحل الثورة الفرنسية. ربما لأن شيئا ما في الثقافة السياسية تبدل خلال العقدين الاخيرين من عمر الجمهورية الخامسة، وبشكل مزدوج. فلا ساركوزي يتمتع بمناقبية دو غول، او حتى جيسكار ديستان او ميتيران، ولا بالحصانة المعنوية للرئيس بعد خروجه من القصر. كيف لا وأول من سرّ بمحنة شيراك كان... ساركوزي نفسه.