لا تعتبر الولايات المتحدة قوىً ودولاً «معادية» إذا شكّلت تهديداً عسكرياً لهيمنتها شبه المطلقة فحسب، بل أيضا إذا تمرّدت على أي جانب أساسي من النظام العالمي المتمحور حول واشنطن، يشرح الصحافي البرازيلي المرموق، بيبي إسكوبار، مشيراً إلى المصطلح الوارد في كتيّب «الحرب غير التقليدية للقوات الخاصة»، الصادر في تشرين الثاني 2010 عن مركز جون كينيدي التابع للجيش الأميركي.
كان لا بد لدول «بريكس» (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) أن تصبح الهدف الأول لهذا النمط من «الحروب الهجينة»، التي تشنها الولايات المتحدة على كافة المستويات، «السياسية والعسكرية والاقتصادية والنفسية»، يقول إسكوبار في مقال نشره موقع «روسيا اليوم» في 28 من الشهر الماضي، وذلك لتخريب المشاريع الدولية التي تتحدى هيمنة واشنطن، والتي تمثل الدول المذكورة محورها الأهم اليوم. من تلك المشاريع، يعدد إسكوبار كسر الـ«بريكس» لهيمنة الدولار، عبر إطلاقها تجارة بينية بعملاتها هي، فضلاً عن تأسيس «بنك التنمية الجديد»، المنافس لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والأهم، الشروع بإدماج أسواق «أوراسيا»، عبر «الحزام الواحد والطريق الواحدة» و«الاتحاد الاقتصادي الأوراسي».
يضع إسكوبار «حملة زعزعة الإستقرار الاقتصادي والسياسي» التي تتعرض لها البرازيل الآن في هذا السياق، بعدما قامت واشنطن وحلفاؤها «برمي كل ما في جعبتها على روسيا، من العقوبات إلى محاولة إشعال ثورة ملونة في موسكو، وحتى شيطنة البلاد إعلامياً، وشن حرب على عملتها وعلى سعر النفط»، بالتوازي مع محاولة زعزعة استقرار إقليم شينجيانغ، في أقصى غرب الصين.
وفضلاً عن كونها حلقة مهمة في «بريكس»، خاصة لمكانتها في أميركا اللاتينية، باتت البرازيل في مهداف واشنطن لأسباب تتعلق، كما يقول إسكوبار، بقرار رئيسها السابق، الزعيم العمالي لولا دا سيلفا، إبعاد شركات النفط العابرة للحدود الوطنية عن استثمار «أحد أكبر اكتشافات النفط في القرن الـ21»، التي قامت الشركة الوطنية، بتروبراس (نقطة الإرتكاز في الحملة ضد السلطة العمالية)، بتطوير التكنولوجيا اللازمة لاستكشافها واستخراجها.
وفي السياق نفسه، يشير إسكوبار إلى إلزام الرئيسة البرازيلية الحالية، ديلما روسيف، جميع الوكالات الحكومية باستخدام شركات التكنولوجيا التي تملكها الدولة فقط، بعد فضح إدوارد سنودن جانب من النشاطات التجسسية لـ«وكالة الأمن القومي» الأميركية، ما أدى إلى «خسارة الشركات الأميركية نحو 35 مليار دولار، على مدى سنتين» فقط، فضلاً عن انقطاع سيل من المعلومات الاستخبارية حول الأنشطة الحكومية وواقع البلاد.
لهذه الأسباب، يقول إسكوبار، شرعت الولايات المتحدة بحملةٍ للتأثير في وعي شريحة كبيرة من «الطبقة الوسطى غير الملتزمة» سياسياً، بخلق حالة واسعة من «عدم الرضى، عبر البروباغاندا والجهود السياسية والنفسية لتسفيه الحكومة»، في سبيل «إعداد السكان نفسياً لثورة»، طبقاً لكتيّب «الحرب غير التقليدية».

عن يسار «محافظ»


يرى إسكوبار أن مدينة ساو باولو البرازيلية باتت «مركزاً للحرب الهجينة» ضد الدولة نفسها، لأنها «العاصمة الاقتصادية والمالية لأميركا اللاتينية»، ولأن «النظام المالي العالمي المتمحور حول وال ستريت، الذي يحكم الغرب كله تقريباً، لا يسمح بالتعبير الكامل عن السيادة القومية عند لاعب إقليمي كالبرازيل».
لكن ثمة تفسير آخر لدور ساو باولو، المركز المالي، في هذه الحرب، مفاده أن الحكومات اليسارية في أميركا اللاتينية (باستثناء كوبا، طبعاً) لم تمسّ جدياً بسلطة رأس المال، المصارف وكبار التجار تحديداً، طوال سنين حكمها، ولم تغيّر بطبيعة النظام النيوليبرالي، بل عملت ضمن آلياته، ومنها الزبائنية، ما أتاح لقوى اليمين المتحالفة مع واشنطن فرصة الانقضاض على هذه الحكومات، مستغلة الأزمة الاقتصادية الناتجة من انهيار أسعار الصادرات الأساسية، وأهمها النفط والمنتجات الزراعية الأولية، بل ومفاقمة الأزمة بوسائل أبرزها المضاربة ضد العملات الوطنية والعبث بأسواق السلع الاستهلاكية الأساسية.
بقيت دعائم الاقتصاد رأسمالية، وفي أيدي أعداء دولة الرفاه

يرى البروفيسور الأميركي في عالم الاجتماع، جايمس بيتراس، أن الولايات المتحدة «متورطة بعمق في زعزعة استقرار» الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا وبوليفيا، وأن انتصار اليمين في هذه الدول يحوّلها إلى بيادق لواشنطن، ويعطي الأخيرة سيطرة كاملة على الموارد الطبيعية، وينسف الاندماج الاقتصادي لأميركا اللاتينية، بإدخال دولها في تكتل تجاري محوره الولايات المتحدة.
لكن في الوقت نفسه، يسوق بيتراس انتقادات حادة لتجربة اليسار في الحكم. في حديثه لموقع «غلوبال ريسيرتش»، أواخر شباط الماضي، يتحدث بيتراس عن انتفاضات كبرى أسقطت الأنظمة التقليدية وأوصلت «يسار الوسط» إلى السلطة، دون أن يقود الأخير «عملية ثورية». أنعشت الحكومات الجديدة المؤسسات الرأسمالية، وأممت «بانتقائية»، تاركة النظام المصرفي ونظام توزيع الغذاء بأسره في أيدي القطاع الخاص، يقول بيتراس، مؤكداً أنه مع تحسين البرامج الاجتماعية لمستوى معيشة السكان، «بقيت دعائم الإقتصاد رأسمالية، وفي أيدي أعداء دولة الرفاه الإجتماعي»، الذين بدأوا حرباً اقتصادية على الحكومات اليسارية، فور أن سنحت الفرصة، عبر المضاربة على العملات الوطنية وافتعال أزمات في أسواق السلع الأساسية، في ظل «تساهل» هذه الحكومات.
في مواجهة هذه الحرب، يجزم بيتراس أن الحكومات اليسارية لا تستطيع أن تلزم موقع الدفاع، وأن عليها أن «تأمم البنوك والتجارة والمؤسسات الضخمة للمبيع بالتجزئة»، التي يصفها بـ«الأساس الاقتصادي للهجوم السياسي»؛ وخاصة أن انتهاء «طفرة السلع» جففت موارد تمويل الآلية الزبائنية التي اعتمدت عليها حكومات اليسار، أُسوة بسابقاتها.
يذهب بيتراس أبعد من ذلك، فيقول إن حكومات اليسار «لم تكن مناهضة للإمبريالية بأي معنى حقيقي»، وذلك أن تأميمها قطاع الصناعات الاستخراجية (النفط والغاز والمعادن) كان «خرافة»، مشيراً إلى اتفاقات الشراكة بين المؤسسات الوطنية والشركات الأجنبية المعولمة، وإلى «تفشي» الأخيرة في القطاع الزراعي في الأرجنتين، وتحديداً شركتَي «مونسانتو» و«درايفوس». ويرى بيتراس أن كل ما فعلته حكومات «يسار الوسط» كان زيادة الضرائب على هذه الشراكات، لتأمين رفع الإنفاق على برامج الرفاه الاجتماعي، «مصحوباً بخطاب طقسي معادٍ للإمبريالية»، سائلاً عن سبب إحجام هذه الحكومات مثلاً عن تنويع اقتصاداتها «طيلة 15 عاماً»، أقله في قطاعات حيوية كإنتاج الغذاء وتصنيع النفط.