تختلف أساليب الانتماء الوطني لكرة القدم في أميركا الجنوبية. البلدان المهيمنة صنفت نفسها. الأرجنتين لديها «لا نوسترا»، والبرازيل لديها «فوتبول آرتي»، وأوروغواي لديها «غرا شاروا». التكتيكات والتحركات في أرض الملعب ليست عبثاً، في حسابات الأميركيين اللاتينيين، يُقال إنها تعكس تاريخ البلاد العريق في الهجرة والتجارة.في كتابه، يقول المؤلف جوشوا نادل إن مفتاح فهم «شغف كرة القدم في أميركا اللاتينية» هو التاريخ:
«لقد وصلت في أواخر القرن التاسع عشر، حينها كانت قد بدأت بلدان المنطقة بتحويل نفسها إلى دول حديثة، الهجرة الهائلة من أوروبا غيرت الديموغرافيا ومعها بعض المعايير الاجتماعية التقليدية». في الواقع، ساعد المهاجرون على زيادة شعبية كرة القدم، تماماً كما ساعدت الرياضة في «دمج» مجموعات جديدة من السكان في البلاد (هذا لا يلغي طبيعة الرجل الأبيض المهيمنة). دساتير جديدة تقدم «حقوقاً» جديدة. قام الرجال والنساء، من جميع الطبقات الاجتماعية، بالمطالبة بمفاهيم أكثر وضوحاً للمواطنة، وذلك من خلال زيادة وعي المواطن في أميركا اللاتينية. كان الغرض من هذه التغييرات جعل أميركا اللاتينية تبدو أشبه باوروبا، اجتماعياً وثقافياً. وهذا كله يأتي في سياق تاريخي كولونيالي مفهوم.
لكن، أصبحت كرة القدم والمحافظة منصهرة في أذهان الكثيرين حتى أصبحت الرياضة تجسد الأمة. ونتيجة لذلك، نمت دول أميركا اللاتينية الحديثة وكرة القدم وتطورتا معاً. كانت نوادي وملاعب كرة القدم بمثابة «حلبات القتال» يمكن لمجتمعات أميركا اللاتينية أن تواجه فيها تعقيدات القومية والمواطنة والسياسة والجنس والعرق. هرب الناس من قصص التأسيس إلى كرة القدم.

فن كرة القدم
أمال كبيرة معلّقة على الفريق الحالي

خضع المنتخب البرازيلي لضغوط أكثر من أي منتخب آخر، ليس فقط للفوز بالمنافسات، ولكن لتطبيق أسلوب كرة القدم في البرازيل والذي سمي «فن كرة القدم البرازيلية» أو «Futebol Arte». وفي هذا السياق، يقول نادل إن فكرة أسلوب كرة القدم البرازيلية يمكن إرجاعها إلى ثلاثينيات القرن العشرين، في فترة ترافقت مع جدل كبير حول التكامل العرقي والجذور الأفريقية في البلاد.
بعد عرض قوي في كأس العالم 1938، أشار المعلقون البرازيليون والأجانب إلى أن البرازيل لم تلعب على نحوٍ جيد فحسب، بل صنعت علامة تجارية فريدة من نوعها لكرة القدم «تخطت تميّز الكرة الأوروبية». لقد كوّنوا أسلوباً برازيلياً متميزاً يعتمد على نحوٍ كبير على البرازيليين المنحدرين من أصول أفريقية. ووفقاً لأحد أهم مفكري البرازيل في القرن العشرين، جيلبرتو فريري، لعب الفريق كرة قدم «ملكية»، خلال تلك الفترة، وصارت عبارات «الدهاء، الفن، الموسيقى، والعفوية» مرتبطة باللعبة البرازيلية.
هذه الصورة البرازيلية ــ الأفريقية، قدمت رؤية إيجابية للتعددية الثقافية. في السابق، كان اللاعبون البرازيليون المنحدرون من أصل أفريقي «كبش محرقة» لأي سقوط للفريق الوطني، بحجة افتقارهم إلى التنظيم والتركيز في معظم المباريات. عنصرية في زمان ومكان موصوفين. استقرّ الأمر على ذلك الحال حتى عام 1958، عندما قاد نجم شاب من أصل أفريقي يدعى بيليه، البرازيل إلى بطولة عالمية كبيرة وشهرة عالمية أكبر.
وفي السنوات القليلة الماضية لم تعد البرازيل هي برازيل بيليه والأساطير التي دوّنت سجلهم الذهبي، سواء داخل الملعب أو خارجه، اختفت. تلاشت بوادر التفاؤل التي ظهرت بعد فوز كأس القارات عام 2013، بعد الهزيمة المفاجئة 7 ــ 1 أمام ألمانيا في الدور نصف النهائي لكأس العالم 2014، والخسارة أمام بطلة كوبا أميركا الجنوبية تشيلي في 2016، وتدهور مستوى اللعب عموماً.
استقرّت العنصرية على ذلك الحال حتى عام 1958 عندما ظهر بيليه


لم تكن الأمور أفضل بكثير للبرازيل كدولة، إذ إن موجات «الازدهار» التي شهدتها خلال العقد الماضي باتت الآن في الذاكرة فقط. الاقتصاد في حالة هبوط، البلد في أسوأ ركود له منذ 25 عاماً، والفساد السياسي متفشٍّ كما كان دائماً، كرة القدم البرازيلية والانهيار السياسي متلازمان. في الماضي لم يكن هناك رابط بين الكرة والسياسة في البرازيل، فكأس العالم 1970 و1982، جاء عندما كان البلد خاضعاً لديكتاتورية عسكرية. القمصان الصفراء التي ارتداها بيليه وغارنيشيا ودزيكو ورونالدو ورونالدينيو وغيرهم الكثير، تم اعتمادها كشعار للفخر القومي والوطنية من قبل المتظاهرين في المسيرات المناهضة للحكومة التي حدثت في جميع أنحاء البلاد في السنوات الماضية. وهذه رمزية تلطّخت بحقيقة أن القميص يرتبط بالاتحاد البرازيلي لكرة القدم، والاتحاد فاسد.

خضع المنتخب البرازيلي لضغوط أكثر من أي منتخب آخر(أ ف ب )

أدى التحقيق الذي أجري عام 2015 في وزارة العدل الأميركية حول الفساد في كرة القدم البرازيلية إلى فضح التصرفات المشبوهة التي ارتكبها سبعة من المسؤولين في الاتحاد. خضع الرئيس خوسيه ماريا مارين للإقامة الجبرية في نيويورك بسبب اتهامه بتجاوزات ومخالفات مالية. مارين كان مترأساً للاتحاد البرازيلي لكرة القدم من 2012 إلى نيسان/ أبريل 2015 وكان رئيساً للجنة المنظمة المحلية لكأس العالم 2014 في البرازيل. ذلك لا يلغي أحقية الشكوك دائماً حول أي دور تلعبه الولايات المتحدة الأميركية في هذا الإطار.
ربما لا تكون مثل هذه الفضائح داخل كرة القدم البرازيلية مفاجئة، لأنها تعكس الفساد الذي يعم النظام السياسي البرازيلي. حسب ناشطون، فإن أكثر من 50 في المئة من الأعضاء البرازيليين اتهمهم «الكونغرس» بارتكاب جرائم خطيرة، كغسيل الأموال، التزوير، تعدّيات بيئية، وحتى الخطف والقتل، في حين أن التحقيق في شركة النفط الحكومية «بتروبراس» كشف عن رشاوى بمليارات الدولارات. والعلاقة بين كرة القدم والفساد السياسي والمالي لا تتوقف عند هذا الحد. فقد ورد اسم «أرينا كورينثيانز»، وهو ملعب نادي مدينة ساو باولو الذي يحمل نفس الاسم، كمنشأة استخدمت لغسيل الأموال! غير أن الحديث عن الفساد البرازيلي، غالباً ما يأتي في سياقات أميركية، وضمن محاولات الولايات المتحدة الأميركية للهيمنة، ما يجعل الحديث الأمر مثيراً للريبة، بحيث أن المشكلة ليست في «فساد»، إنما في النظام العالمي نفسه الذي تسيطر عليه أميركا، نفسها. أميركا التي لم تتأهل، و«تغار» من سِحر البرازيليين.


اتحاد «النظام» لكرة القدم؟
في 2016 أمرت محكمة أميركية بإلغاء الحسابات المالية لأحد أعضاء مجلس الشيوخ وعضو في الكونغرس من ولاية «ريو غراندي دو نورتي» الشمالية ــ الشرقية للاشتباه في ضلوعه في مخطط فساد وغسيل للأموال يتعلق ببناء ملعب «أرينا داس دوناس» في ناتال البرازيلية الذي لعبت كل من المكسيك والولايات المتحدة الأميركية مباراياتها عليه في كأس العالم 2014. وقبل بداية كأس العالم الماضي في البرازيل 2014، ألقي القبض على إيفو هرتسوغ، نجل الصحافي فلاديمير هرتسوغ، وقتِل (قال ناشطون إن الدولة قتلته لأنه أنشأ عريضة موقعة من 54 ألف شخص يطالبون بإقالة خوسيه ماريا مارين من رئاسة الاتحاد)
■ ■ ■

استعارات كروية!
الاستعارات الرياضية في البرازيل لها مكانتها، فغالباً ما يوصف الانقسام السياسي المرير البلاد بأنه «إنفلونزا الطيور»، في إشارة إلى المنافسين العظماء في ريو دي جانيرو فلامنغو وفلومينينزي. كما أن الكاتب الرياضي جوكا كفوري يستخدم عبارات الاستعارة الكروية في تعليقاته وتحليلاته، حيث استخدم عبارة «إرسال لاعب لتنفيذ رمية تماس» لشجب عملية إقالة رئيسة البرازيل ديلما روسيف في 2016. ومع ذلك، قد تكون أهم مقارنة بين كرة القدم والسياسة هي الطريقة التي تمت من خلالها إقالة الرئيسة روسيف، مثلها مثل ثقافة «الخسارة» في كرة القدم البرازيلية، فوفقاً لتقرير نشر في المجلة المكسيكية «كونوميستا» في 2014، يستمر المدربون في النوادي بمعدّل 15 مباراة فقط!