انتهى تقريباً الموسم الكروي 2017 ــ 2018 في تونس بلا مفاجآت تقريباً، بل يبدو أنه نسخة من مواسم العشرية التي سبقت سقوط بن علي. الترجي الرياضي التونسي ضمن البطولة قبل 4 جولات من نهايتها. الأربعة الكبار احتلوا المراتب الأربع الأولى ونهائي كأس تونس سيجمع اثنين من هؤلاء الكبار (النادي الأفريقي والساحلي). الفضائح التحكيمية عادت بقوة وأثرت في مسار البطولة في أعلى الترتيب كما في أسفله. ما زال البوليس يقمع جماهير «الفيراج» (المنعرجات) في المقابلات الكبرى ويحاربها بشراسة، كما لو أنها خطر على الأمن القومي. آخر إنجازات الشرطة هي مقتل عمر العبيدي مشجع النادي الافريقي ابن التاسعة عشر عاماً، الذي قضى بعد مطاردة بوليسية بدأت في الملعب لتنتهي في «وادي مليان». البطولة التونسية لكرة القدم هي ليست مجرد دوري رياضي عادي: إنها مرآة البلاد.إذا ما تمعّنت في تاريخ كرة القدم التونسية، وفي حاضرها وتفاصيل أخرى، ستكتشف كم أنها تعكس واقع البلاد بأمانة تبعث على الدهشة. فلنبدأ من النهاية. هذا الموسم هو رقم 62 في تاريخ البطولة التونسية منذ الاستقلال (1956). الأربعة الكبار وهي فرق أكبر المدن التونسية وأغناها استأثرت بـ55 لقباً: 27 للترجي الرياضي التونسي (العاصمة تونس، الشمال الشرقي)، 11 للنادي الإفريقي (العاصمة تونس، الشمال الشرقي)، 9 النجم الرياضي الساحلي (مدينة سوسة، الوسط الشرقي) و8 للنادي الرياضي الصفاقسي (مدينة صفاقس، الوسط الشرقي). حتى عندما تفلت البطولة من الأربعة الكبار فإنها لا تذهب بعيداً: 4 بطولات للملعب التونسي (العاصمة تونس)، بطولة واحدة لسكك الحديد الصفاقسي (مدينة صفاقس) وبطولة للنادي البنزرتي (مدينة بنزرت، الشمال الشرقي).
الاختلال في توزيع الثروة والتنمية في تونس ينعكس على أداء وإمكانات فرق دوري النخبة

طيلة 62 عاماً احتكرت مدن الشريط الساحلي (شرق البلاد) اللقب، ولم يحدث إلا اختراق واحد من طرف المناطق الداخلية، إلا عندما فاز شبيبة القيروان (الوسط الغربي) بالبطولة في موسم 1976 ــ 1977. هذا التقسيم لألقاب البطولة هو بالضبط مثال تقسيم الثروة في تونس، وهذا الاختلال بين مناطق البلاد هو بالضبط معضلة تونس الكبرى وأحد أهم أسباب الاحتجاجات الاجتماعية. في بعض المواسم كانت توجد خمسة أو ستة فرق من العاصمة وفريقان أو ثلاثة من صفاقس وفريقان من منطقة الساحل في حين تتقاسم بقية الأقاليم والمحافظات المقاعد القليلة المتبقية في دوري النخبة. روح الثورة ورياحها هبت على البطولة التونسية خلال بضعة مواسم. طبعاً بقي اللقب حكراً على «الأربعة الكبار»، لكن خارطة التوزع الجغرافي لأندية النخبة أصبحت أكبر. صعدت عدة فرق ومحافظات لدوري النخبة لأول مرة في تاريخها: الجريدة الرياضية بتوزر (محافظة توزر، الجنوب الغربي)، نجم المتلوي (محافظة قفصة، الجنوب الغربي)، النجم الأولمبي سيدي بوزيد (محافظة سيدي بوزيد، الوسط الغربي)، اتحاد تطاوين (محافظة تطاوين، الجنوب الشرقي)، والاتحاد الرياضي ببن قردان (محافظة المدنين، الجنوب الشرقي). هكذا عادت فرق أخرى غابت عن البطولة المحترفة لسنوات طويلة، كنادي جندوبة الرياضية (محافظة جندوبة، الشمال الغربي) ومستقبل القصرين (القصرين، الوسط الغربي).
في بعض المواسم كانت كل أقاليم البلاد تقريباً ممثلة في الرابطة. حتى «أخطاء» التحكيم أصبحت أقل وقاحة وتأثيراً والتشويق ازداد. فالبطل يعرف اسمه في الجولة الأخيرة أو التي تسبقها. ظاهرياً، لا توجد أسباب منطقية تفسر هذه «الهبة». ربما هو المناخ العام في البلاد عندما ارتفع سقف أحلام العدالة الاجتماعية والتوازن بين الجهات والمحاسبة والشفافية... الخ. لكن الأشياء الجميلة لا تدوم طويلاً. أكثر الفرق التي أشرنا لها لم تطل البقاء في دوري النخبة. نزلت مجدداً للأقسام السفلى، كما أن البطولة عادت تدريجياً إلى عاداتها وتقاليدها. فضائح تحكيمية تغيّر مسار البطولة وفائز معروف قبل عدة جولات. التنوع ما انفك يتراجع. 12 نادياً من جملة 14 تنتمي إلى مدن الشريط الساحلي، و2 فقط من «دواخل» البلاد (قفصة والقيروان)، في حين يغيب الشمال الغربي تماماً. 8 محافظات فقط (من جملة 24) ممثلة في دوري النخبة.

دوري «طبقي»
الاختلال في توزيع الثروة والتنمية في تونس ينعكس بوضوح على أداء وإمكانات فرق دوري النخبة وبقية الأقسام. ففي حين تنشط بعض الأندية في مدن لديها بنية تحتية رياضية متطورة ومتعددة (طبعا نسبياً ومقارنة ببقية المناطق) تتدرب وتلعب أغلب نوادي كرة القدم التونسية في ظروف غير عصرية، وفي تعبير أدق: مخجلة. ملاعب بأرضية ترابية، تجهيزات رياضية بدائية إن لم تكن منعدمة، عدم توفر وسائل نقل مناسبة. نوادي المدن الكبرى ــ أساساً الأربعة الكبار ــ لها شعبية كبيرة وجماهير واسعة، توفر لها دعماً مادياً محترماً، بالإضافة إلى ما تكسبه من مشاركتها وفوزها في المنافسات المحلية والقارية وعقود الإشهار والنقل التلفزي ومداخيل تذاكر المقابلات. أما النوادي الصغيرة خصوصاً التي تنشط في المناطق الداخلية الفقيرة، فهي تعيش على منح ومساعدات من السلط الجهوية والمركزية وبعض الدعم المالي من الأحباء الميسورين. اعتماد نظام «اللاهواية» سنة 1995 ثم نظام الاحتراف سنة 2005 كان الضربة التي قصمت أظهر أغلب الجمعيات المتوسطة والصغيرة، لتكرس هيمنة الأربعة الكبار وعلى رأسهم الترجي الرياضي التونسي الذي كان رئيسه سليم شيبوب ــ صهر الرئيس الأسبق بن علي ــ مهندس هذا الانتقال، بمباركة عبد الرؤوف النجار رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم حينها. نظام الاحتراف جعل الأندية الصغيرة غير قادرة تماماً على منافسة الفرق الكبرى، فميزانية فريق من الأربعة الكبار تتجاوز أحياناً ميزانية كل فرق واحد من الأقسام الدنيا. وفي حين تشتري بعض الأندية طائرات أثناء مشاركاتها في المنافسات الافريقية، يعجز بعض الأندية عن توفير كلفلة باص للتنقل من مدينة إلى أخرى. حتى الفرق التي تتبع لمؤسسات القطاع العام والتي كانت حتى حدود التسعينيات تنشط في دوري النخبة وتضيف إليه نكهة خاصة، لم تقدر على الصمود أمام سيطرة المال ورجال الأعمال على كرة القدم. تكور الشكل الجحيمي للأزمة واستوى اليوم على صورته الحالية.


هذه التغيرات المصيرية في تاريخ كرة القدم التونسية تزامنت مع تبني النظام السياسي التونسي لسياسة خصخصة المؤسسات العمومية والانخراط في اقتصاد السوق والتبادل الحر. في أواسط التسعينيات وقّعت تونس على اتفاقية الـ«غات»، وانضمت إلى منظمة التجارة العالمية كما وقعت اتفاقيات شراكة وتبادل حر مع الاتحاد الأوروبي تعاني البلاد اليوم من مرارة ثمارها. المستقبل ليس وردياً. صعوبة ظروف التدريب واللعب وضعف المكافآت بالإضافة إلى استحالة تحقيق «أمجاد» كروية تجعل لاعبي الفرق الصغرى، خصوصاً في المناطق الداخلية، يسعون للعب في فرق المدن الكبرى. ينقضون على أول فرصة إعارة أو انتداب. حتى عندما يكون للجمعية الصغيرة لاعبون متميزون فهي لا تستطيع الحفاظ عليهم. تضطر إلى بيعهم حتى تغطي العجز في موازناتها. وهكذا نجد نوادي «الأطراف» مفقرة، وتعمل وفق آلية رأسمالية صرفة، بحيث أنها تمول نوادي «المركز» الثرية بـ«أرجل» عاملة مميزة ومتدنية التكلفة. هذا النزوح يتطابق مع حركة تدفق السكان في البلاد حيث تتحول المناطق الداخلية إلى مقابر ومدن أشباح، بينما يتكدس البشر في المدن الكبرى. حتى لاعبو الفرق الكبرى والمتوسطة يحلمون بالهجرة كما يحلم بذلك بقية شباب الطبقات الوسطى والفقيرة، إما إلى إحدى بطولات الخليج أو الى فرق الدرجات الثانية والثالثة الأوروبية كي يجمعوا ثروات صغيرة (يحيا فارق أسعار صرف العملة!) لكي يبنوا عمارات أو مشاريع تجارية تضمن لهم تقاعداً كروياً مريحاً. كم من لاعب تكهن له المتابعون بمستقبل زاهر وإمكانية الاحتراف في البطولات الأوروبية القوية انتهى به الأمر على تخوم الصحراء أو احتياطياً في أحد أندية أوروبا الشرقية.

السياسة والكرة: خط تماس
علاقة كرة القدم التونسية بالسياسة قديمة وملازمة لها منذ نشأتها. أغلب الفرق التونسية التي تنشط في بطولة النخبة وحتى خارجها تأسست زمن الاستعمار الفرنسي والبعض سيحتفل بمئويته قريباً. كان التونسيون مستبعدين من فرق كرة القدم التي أسسها فرنسيون وجاليات أوروبية أخرى (ايطالية). تأسيس نادي كرة قدم تونسي بإدارة ولاعبين تونسيين كان وقتها بمثابة عمل وطني مقاوم ودفاع عن الهوية المحلية. نلاحظ ذلك حتى في التسميات، مثلاً الإصرار على إضافة صفة تونسي أو إسلامي أو افريقي إلى اسم الفريق. المستعمر الفرنسي لم يكن غافلاً عن هذا البعد السياسي وكان يراقب هذه الفرق عن كثب، خاصةً المسيرين الذين التحق جزء منهم بالحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال. علاقة السلطة بنوادي كرة القدم قائمة أيضاً. فنادي الملعب التونسي الذي تأسس سنة 1947 كان مدعوماً من قبل البايات وإلى اليوم يحظى بدعم بعض العائلات العريقة في العاصمة. بعد الاستقلال أصبح الترجي الرياضي التونسي أقرب الفرق إلى «قلب» السلطة. ابن الرئيس الحبيب بورقيبة كان صهراً للشاذلي زويتن أحد الرؤساء التاريخيين للترجي الرياضي التونسي.
نوادي «الأطراف» مفقرة وتعمل وفق آلية رأسمالية صرفة بحيث أنها تمول نوادي «المركز»

ابنة الرئيس زين العابدين بن علي هي زوجة سليم شيبوب الرئيس السابق للترجي الرياضي التونسي. حافظ قايد السبسي رئيس حزب «نداء تونس» الحاكم وابن رئيس الجمهورية الحالي هو نائب رئيس الترجي الرياضي التونسي. هذا لا يعني أن الفرق الكبرى الأخرى ليست قريبة من السلطة بشكل أو بآخر، لكن يبقى الترجي الحبيب الأول. هذا الحب قتل البطولة التونسية خلال التسعينيات وبدايات القرن الجديد، أي طيلة تولي سليم شيبوب رئاسة الترجي الرياضي التونسي، وسيطرته على جامعة كرة القدم والرياضة عموماً. كانت بمثابة عشرية سوداء في تاريخ كرة القدم التونسية. بطولات تحسم قبل عدة جولات من نهاية الدوري، فضائح تحكيم، احتقانات جهوية، عنف في الملاعب، تسخير الشرطة لمعاقبة ومطاردة المشجعين، افتكاك لاعبين ومدربين من فرق أخرى. تأثيرات هذا العقد ما زالت قائمة حتى اليوم والكثير مما حصل هذا الموسم يؤكد هذا. نتائج الانتخابات التشريعية تظهر بوضوح هذا التماس ــ و هو ليس محصوراً بتونس بل ظاهرة عالمية ــ بين السياسة وكرة القدم، كتلة نداء تونس التي أتت في المرتبة الأولى تضم نائباً كان رئيساً للنادي الرياضي الصفاقسي (منصف السلامي) وآخر هو الرئيس الحالي للنجم الرياضي الساحلي (رضا شرف الدين). أما رئيس الحزب فكما أشرنا سابقاً، فهو نائب رئيس الترجي، رئيس الاتحاد الوطني الحر. والذي حلّ ثالثاً كان رئيس النادي الافريقي، المهدي بن غربية. وهناك وزير في الحكومة الحالية، هو رئيس النادي البنزرتي.
انتهى الموسم الكروي إذاً، وستأتي مواسم أخرى تشبهه كثيراً. فلنتابع نتائج «البطولات» المقبلة، وإذا ما تغيرت يوماً ما أسماء «الأبطال» وأصبحت أكثر تنوعاً، فربما هناك شيء ما اسمه أمل. في انتظار الأبطال الجدد يمكننا أن نكتفي بالبحث عن القنوات التي ستبث مباريات كأس العالم خصوصاً تلك التي سيلعبها المنتخب الوطني التونسي.