كان اللبنانيون يحدقون برأس بندقية، بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية، عندما أعلن الحكم الإيطالي سيرجو غونيلا، بداية المباراة النهائية لبطولة كأس العالم لكرة القدم عام 1978 بين المنتخب الأرجنتيني والمنتخب الهولندي. لم يحمل الجميع الأعلام ويرتدوا قمصان البلدان التي يدعمونها. كان رصاص القنص في بيروت ينتظرهم. لكنهم شاهدوا، ويتذكرون مونديالات الحروب. لطالما ارتبط كأس العالم في السبعينيات والثمانينيات بأحداث أمنية، بأحداث أكبر منهم. في مونديال 1974 كان الوضع في لبنان متوتراً. وبعد عام اندلعت الحرب الأهلية. في 1978 كانت الحرب واقعاً، صوتها أعلى من صوت الجميع. وكانت بيروت منقسمة على نفسها «شرقية ــ غربية». ويا لها من مفارقة أن برلين كانت كذلك أيضاً، وكان ذلك حدثاً في المونديال. واستمرت الأحداث تتوالى، مونديالاً تلو الآخر. في 1982 كان الاجتياح الإسرائيلي، في 1986 حرب المخيمات وسيطرة القوات اللبنانية على المنطقة الشرقية، وفي 1990 حرب الإلغاء وحرب التحرير. يمكن القول إن عام 1994 كان أول كأس عالم «حقيقية» شاهدها اللبنانيون بهدوء، لكنهم يتذكرون.
كانوا يرفعون علم منتخبهم المفضل بوضوح حتى لا يظنه البعض راية بيضاء للمحتل

الإثنين 5 تموز 1982. كان يصادف شهر الصوم. خسرت البرازيل. وفي بيروت كان ذلك قبل موعد الإفطار بقليل. يذكر الصحافي الرياضي محمد حدادة كل شيء: «بقيت صائماً ثلاثة أيام، رغم محاولات الجميع بمواساتي. كنت أحب البرازيل، كان منتخب البرازيل ساحراً في ذاك الوقت، وبقيت أعاني من عقدة اسمها المنتخب الإيطالي حتى 1994 عندما ربح المنتخب البرازيلي على المنتخب الإيطالي في نهاية كأس العالم وفاز بركلات الترجيح». كان حدادة يذهب إلى ضيعته في إقليم الخروب لمتابعة مباريات كأس العالم، بالتقاط بث قنوات قبرصية، تركية أو مصرية.
لم يكن تلفزيون لبنان في تلك الحقبة ينقل جميع المباريات، لأسباب لا يعرفها. حتى المباراة النهائية لكأس العالم في 1978 لم ينقلها تلفزيون لبنان وتابعها على شاشة التلفزيون المصري. بالنسبة إلى جيل الحرب اللبنانية كأس العالم بحسب حدادة كان بمثابة «العيد»... «نحن، محبي كرة القدم، كأس العالم هو العيد الذي كنا ننتظره كل أربع سنوات». لم تكن مشاهدة كرة القدم ميسّرة حينها مثل اليوم. الآن تشاهد عشر مباريات في التوقيت ذاته. لكن سابقاً كنا ننتظر من أسبوع إلى آخر لمتابعة مباراة واحدة. كان الشغف هو الذي يجعلهم ينتظرون الحدث. وبسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية والخوف والقلق كان المونديال احتفالاً: «لم نترك مجلة رياضية في السوق من دون أن نشتريها». كان كأس العالم له قيمة أكبر وكان محصوراً بالعمالقة فقط. آنذاك كان كأس العالم يجرى بمنافسات بين 16 منتخباً، واليوم 32. وهناك تخطيط بتوجه «أميركي» لجعله منافسة بين 42 منتخباً. يعني أن يصير «استهلاكياً» إلى أقصى درج

ليلة «خالدة»
كان الشغف بالمنتخب العربي كبيراً. كان المشجعون الكرويون يحتفظون بقصاصات ورق من الصحف لمنتخبات تونس والمغرب والجزائر ومصر. وكان الناس يحفظون أسماء اللاعبين العرب، ذلك أن بيروت كانت في ذلك الوقت، أكثر انتماء إلى الوعاء العربي مما هي عليه الآن. تقريباً كان الأمر أيديولوجياً. فوز منتخب تونس في 1978 كان حدثاً عظيماً، وفوز الجزائر في 1982 يذكره الجميع، كذلك تأهل المغرب في 1986، كان متنفساً للمحاصرين. بفضل تفوق منتخب عربي جزائري على منتخب يضم افضل لاعبي العالم مثل كارل هاينز رومينيغه وبول برايتنر، حصل «الشعب العربي» على ليلة خالدة. يقول الرياضي إبراهيم وزني: «فازت الجزائر على بطل أمم أوروبا (ألمانيا الغربية)، كان هذا الخبر فأل خير، في عز دين القصف، الطائرات تدك بيروت، واللبنانيون يتابعون المباراة بسعادة، رغم الحرب وأطنان القذائف التي كانت تسقط علينا، اشتعلت شوارع بيروت، بصوت زمامير السيارات، أغان، وموتوسيكلات، وعنونت الصحف المحلية فوز المنتخب الجزائري على العملاق الألماني، كان ذلك فرحة كبيرة بالنسبة لنا، كنا دائماً نتعاطف مع الدول العربية، ونشعر أن هناك مؤامرة عليها». يتذكر عبدالله إبراهيم فوز المنتخب الجزائري عام 1982 بطريقة أخرى: «الجزائر بلد المليون شهيد التي كانت مشاركة يومها، عندما عادت وخسرت، نزل مئات الألوف إلى الشارع اعتراضاً على خسارتها، وما حدا نزل كرمال عاصمة عربية محاصرة (بيروت)». كنّا محاصرين ووجدنا وقتاً لنحتفل بالجزائر.

الفلسطينيون أطلقوا النار ابتهاجاً بفوز إيطاليا خلال الإجتياح


على وقع أصوات الدبابات الإسرائيلية بدأ مونديال 1982، فيما كان أربعة ملايين شخص في البلاد، يخططون لمشاهدة أداء أشهر اللاعبين في كأس العالم. باتت أرواحهم في التاسع من حزيران تحت نيران مركزة. الجيش الإسرائيلي احتل بيروت، وفقد اللبنانيون الركن الرياضي الآمن والوحيد الذي أملوا الفرار نحوه، بعد أن مزقت قذائف الحرب الأهلية شرفات منازلهم، وعلاقاتهم الاجتماعية.

أبيض وأسود
ذكريات الناس الأكثر حيوية عن مباريات كأس العالم في 1982، هي حين كان يجتمع الحي بأكمله حول تلفزيون واحد صغير يعمل على بطارية سيارة. لم يكن خلال الحرب، في ذلك الوقت، كهرباء أو مولد كهربائي. كان لدى جميع اللبنانيين تلفزيون أبيض وأسود صغير. يجتمعون في مجموعات في الشوارع حول سيارة يضعون فيها «كلاب» البطارية، ثم يصلونها بالتلفزيون ويشاهدون مباراة المونديال. هذه المشاهد لا تزال حاضرة في ذاكرة جيل الحرب الذهبي، وتحديداً عام 1982 وما بعدها في عام 1986، أما في عام 1990، فتحسنت الأمور. يعتقد رضا أن المونديال الأصعب الذي مر عليه خلال الحرب هو مونديال 1982. كان هناك حرب أهلية ثم وصل الاجتياح الإسرائيلي إلى بيروت. انقطعت الكهرباء، وبدأ المونديال. أصبحنا نجتمع ليلاً لمشاهدة المباريات على بطارية سيارة. يقول رضا: «فيما بعد عندما بدأ يشتعل الاجتياح، ويقترب القصف من رؤوسنا، تهجرنا، البعض ذهب إلى الجبل والبعض الآخر اتجه نحو الجنوب، لم تكون الكهرباء متوفرة في الجنوب أيضاً». يتذكر كيف راح الجميع يبحث عن تلفزيون صغير يعمل على بطارية سيارة، لمتابعة المونديال.

من الممكن أن يكون المونديال نحساً ويجلب حرباً جديدة (من مجموعة فؤاد خوري)

يذكر رضا جيداً أن اتحاد إذاعات الدول العربية يومها، لم ينقل إحدى المباريات، رغم أنها كانت من الأهم. كانت بين إيطاليا والبرازيل. أما السبب فكان أن الحكم كان إسرائيلياً (ابراهام كلاين). يقول معلقاً: «أذكر جيداً أنني تابعتها حينها على التلفزيون القبرصي. ذهبت إلى الجنوب عند بيت جد أمي، وكانوا يتابعون المباراة على تلفزيون صغير يعمل على بطارية السيارة. جلستُ معهم وشاهدنا المباراة التي انتهت بخسارة المنتخب البرازيلي (3 ــ 2)». ويومها بقي صائماً حتى العاشرة والنصف مساء من «الزعل». يعترف محمد «يعني أنا برازيلي». المفارقة هي أن الحكم الإسرائيلي نفسه ابراهام كلاين قاد مباراة ايطاليا والأرجنتبن في كأس العالم 1978، ونقل تلفزيون لبنان المباراة مباشرةً من أميركا الجنوبية، في الواحدة فجراً.

معلومات مغلوطة
ثمانون يوماً عاشها الصحافي خليل العلي في حصار بيروت. لم تكن الكهرباء متوافرة بسبب الحرب. من سكنه في برج البراجنة، ذهب مع العائلة للإقامة في شارع الحمرا، بعدما احتل العدو المطار. يصف خليل مشهد كأس العالم أمام محال شارع الحمرا: «كنت ترى أمام كل دكان مجموعة من الرجال تضع تلفزيوناً صغيراً موصولاً ببطارية سيارة. تشاهد مباريات المونديال، وتشجع منتخباتها». وقت مستقطع من الحرب. يقول خليل: «هكذا تابعنا كأس العالم رغم كل المرارة التي كنا نمر بها، وكانت القناة 7 تبث معظم المباريات، وأحياناً نلتقط قناة مصر أو القبرصية».
كانت الأخبار شحيحة وكان اللبناني يصعد على أسطح المنازل لكي «يبرم» اللاقط الهوائي

كان هذا قبل ولادة الستالايت، والديش، فقط لاقط داخلي في الشارع. ما يذكره، أنه كان مقيماً في حي كان جميع المقاتلين فيه فلسطينيين. وعند فوز المنتخب الايطالي، فرح الشعب الفلسطيني، لأن إيطاليا حسب ما أُشيع وقتها، قامت بإهداء الكأس إلى المقاومة الفلسطينية ضد الحصار الإسرائيلي. الفلسطينيون أطلقوا النار ابتهاجاً بفوز إيطاليا. يُذكر أن المنتخب الإيطالي الذي فاز بكأس العالم زار لبنان أواخر في 1982، كانت لديه مباراة في تصفيات كأس أوروبا مع قبرص، وقبرص قريبة إلى لبنان، فقاموا بزيارة لرفع معنويات القوة الايطالية في الأمم المتحدة بعد هدوء الأوضاع وانسحاب الاحتلال الإسرائيلي باتجاه الجنوب. أعلام قليلة في الشوارع، وأخرى صغيرة في السيارات. أعلام تلوح على أسطح المباني والشرفات. كانت هموم اللبنانيين وقتها أكبر. في حصار بيروت، كان الكثير منهم يصارع للحصول على قوت يومه، ورغم ذلك كانوا متحمسين، يرفعون علم منتخبهم المفضل بوضوح، حتى لا يظنه البعض راية بيضاء للمحتل. لا تغفل عايدة عن الأسطورة روبيرتو باجيو في المنتخب الايطالي «آسر القلوب بعينيه الجميلتين وشعره المجدل، كان مهاجماً موهوباً بشكل كبير اعتاد أن يعذب المدافعين بسرعته وذكائه وخداعه، وأن يعذبنا نحن بسحره».

90 دقيقة بلا رصاص
في 1986 أقيم كأس العالم في المكسيك، وكانت المباريات تبدأ بحسب توقيت لبنان ليلاً. تبدأ المباراة الأولى الساعة التاسعة ليلاً، والمعروف أنه عندما كانت تبدأ المباريات تهدأ الأوضاع. قيل إن المتقاتلين على المحاور كانوا يتحدثون إلى بعضهم البعض، سواء بالصوت أو بالهواتف الأرضية أو الأجهزة اللاسلكية، يقولون: «اليوم في مباراة البرازيل وفلانة، روقوها يا شباب حتى نتابع المباراة». كان كأس العالم يسكّن جراح اللبنانين في ذلك الوقت لنحو 90 دقيقة ويريح الأطفال والنساء من أصوات القذائف وأزيز الرصاص، حيث كانت تهدأ الأوضاع في وقت المباراة.

كانت القناة 7 تبث المباريات وأحياناً نلتقط قناة مصر أو القبرصية

يعتقد رضا الاربعيني أن النجاح الأرجنتيني في عام 1986 هو أحد أقدم ذكرياته وأكثرها حيوية أثناء طفولته. يبدو محظوظاً، أن تكون ردة فعله الأولى عن ذكريات المونديال والحرب، انتصار منتخبه، من دون أن يذكر «الحرب والتهجير» في الجملة ذاتها. كذلك، يتذكر بعض من عاشوا تلك الفترة «حرب الإلغاء» وكيف كانت تهدأ الأوضاع في بيروت أثناء كأس العالم. وبعد المونديال مباشرة اندلعت الحرب وحصلت أحداث كبيرة. وكما تعرفون النكتة اللبنانية الممجوجة... «حتى في عام 2006 بعد أسبوع من مونديال ألمانيا الذي فازت به ايطاليا اندلعت حرب تموز»، يقول محمد. يبدو أن كأس العالم بالنسبة للمشجعين الكرويين اللبنانيين بين نارين؛ نار المتعة ونار أنه من الممكن أن يكون المونديال نحساً، ويجلب لهم حرباً جديدة.

حكاية التشفير
كانت الأخبار شحيحة، وهذا ما زاد الشغف والحب للعبة. كان اللبناني يصعد على أسطح المنازل لكي «يبرم» اللاقط الهوائي. رغم الشتاء والهواء يقول ماجد، كنت أصرخ سائلاً شقيقي «اجت الصورة، لا ما اجت، اجت محطة مصر، لا ما اجت». ثم يعيد تحريك اللاقط. كانت هذه متعتهم. وكان المنتخب التونسي أول منتخب من أفريقيا يفوز بمباراة في كأس العالم عندما تغلب على المكسيك 3 ــ 1 في مونديال 1978. لم يعرف اللبنانيون النتائج إلا في اليوم التالي، من خلال الراديو من نشرة رياضية على إحدى المحطات العربية، «اليوم أصبحت كرة القدم عولمة، التهى البعض بإصابة محمد صلاح، ويتهم راموس بأنه صهيوني، في وقت كان الحديث سابقاً فقط عن كرة القدم»، يقول ماجد، معقباً: «نحب المغرب لانه منتخب عربي، نحب الجزائر لانه منتخب عربي، نتابع منتخب قطر للشباب في عام 1981 لتأهله للمبارة النهائية في كأس العالم للشباب. هذا الفرق بين تلك المرحلة واليوم»، برأيه اليوم إشباع والإشباع لا يروي الظمأ، لأن الأفكار كثيرة، والمحللين كثر، والمنتخبات «عجقة»... «لم تعد كرة قدم مثلما عرفتُها وأحببتُها». اليوم تسري موجة من الترقب والشعور بالأرق والقلق لدى محبي كرة القدم، بسبب عدم سهولة مشاهدة البطولة، كما يحلو لهم لأن نظام التشفير المتّبع في القنوات الناقلة لهذا الحدث المهم، قد أجبر المشاهد على دفع مبالغ طائلة للاشتراك في القناة، وإلا فلن يشاهد مباريات كأس العالم، أو يضطر لترك منزله والالتزام بمقعد في أحد المقاهي ودفع مبلغ باهظ مقابل مشاهدة مباراة واحدة وتحمل ضوضاء المتابعين.