كانت فرنسا تقف على حافة الهاوية مع بداية الستينيات، بعد أن نالت الجزائر استقلالها وخرجت بمخزونها النفطي خارج سيطرة الاستعمار الفرنسي. اتجهت الدولة الفرنسية إلى مستعمراتها في أفريقيا من أجل تدعيم الشق الكبير الذي خلفته الجزائر في الاقتصاد الاستعماري. كان لا بد من تدعيم الحركات السياسية في أفريقيا من أجل استقرار الساحة السياسية واستقرار مؤقت في السلطة، لإمكانية استقطاب اقتصادي نحو الأرض السمراء، وتسكين شركات النفط التي خرجت من الجزائر، والبدء في عمليات التنقيب في أفريقيا. وقبل ذلك، فإن الرجل الفرنسي الأبيض نهب أفريقيا، ولم يتوقف بعد.

ظلت فرنسا طوال نصف القرن الماضي تستغل الثروات الأفريقية. وهناك في باريس حيثُ خطابات التحرر وتقبل الآخر، ترفض التعامل من أصحاب الأصول الأفريقية كما ينبغي التعامل مهعم. في طريق بحثه عن الإقامة في فرنسا، أو حتى حينما يصل إلى شرف الجنسية، يظل الأفريقي منقوصاً في مقابل المواطن الأبيض. لم تتوقف الثروات الأفريقية عند المعادن والماس وغيرها من الموارد الطبيعية، لكنها امتدت إلى كرة القدم، حيثُ الساحات الرملية غير الممهدة منجماً يحوي الكثير من الماسات الكروية، وبالطبع أينما وجدت الثروات -من أي نوع- وجد المستعمر. بدأت فرنسا في استخدام الثروة الكروية الجديدة بعد فشلها في التأهل إلى كأس العالم مرتين توالياً 1990 ــ 1994. بدا أن الأمر يحتاج إلى تغيير جذري في تكّوين المنتخب الفرنسي. استبعدت عناصر أساسية مثل لاعب فريق مانشستر يونايتد إيريك كانتونا، والعديد من الأسماء اللامعة. الأمر ليس محض صدفة.
استعدادات المنتخب الفرنسي لمونديال 1998على أرضها، بدأت مبكراً وبعد فشل المنتخب التأهل إلى كأس العالم 1994 في الولايات المتحدة الأميركية، أعلن الاتحاد الفرنسي التعاقد مع المدرب الفرنسي إيمي جاكيه، الذي اتخذ قراراً تاريخياً حِينَ قام بعرض تمثيل المنتخب لمن كان يحمل جواز سفر فرنسياً، أو إعطائه الجنسية مباشرة من أجل المشاركة مع المنتخب الفرنسي. كانت أول مرة ينتهج المنتخب الفرنسي التجنيس، واللعب بالعديد من اللاعبين من أصول أفريقية. بدا الأمر كأن عقداً اجتماعياً جديداً يكتب. أهم هؤلاء اللاعبين الذين استفاد منهم المنتخب الفرنسي بقرار جاكيه، هم زيدان وتورام ودجوركاييف وكاريمبو وديسابي. وآخرون رفضوا المغريات وقرروا اللعب مع بلادهم الأم. لم يكن عقداً اجتماعياً بل كان سطواً فرنسياً عندما اكتشفت فرنسا أن الموهبة في مكانٍ آخر.

المجد ليس أبيض
عانت فرنسا كثيراً من أزمات العنصرية ضد أفريقيا. ظلَّ الشعور بالارتقاء العرقي من المواطنين أصحاب البشرة البيضاء قائماً، ووصل إلى كرة القدم، حيثُ شهدت الملاعب أحداثاً عدة تظهر فيها العنصرية بوجهها القبيح. منها الأناشيد التي كان يرددها بعض من المتعصبين في الجماهير الأوروبية والفرنسية، كلّما لمس الكرة لاعب من أصول أفريقية، كانت تسمى بأناشيد القردة. وهناكَ حادثة شهيرة من المدرب الفرنسي جيرار أولييه، تحدث عنها النجم الفرنسي نيكولا أنيلكا أخيراً، حيث قال: «أولييه كان يرد على اللاعبين الأفارقة الذين يذهبون إليه مطالبين بمساعدتهم على زيادة رواتبهم قائلاً: «أنتم السود.. عندما يعطيكم الناس أموالاً، لا تصنعون شيئاً»».
دخلَ المنتخب الفرنسي منافسات كأس الأمم الأوروبية عام 1996 في ثوبه الجديد تحت قيادة المدرب إيمي جاكيه، مطعماً بالعديد من اللاعبين أصحاب البشرة السمراء والأصول الجزائرية والأفريقية. كان الأمر امتداداً لموجة البشرة السمراء مع المنتخب الفرنسي، لكنها في تلك المرة كانت بعدد كبير وتوجه مختلف عن المتعارف عليه بعد بزوغ نجم اللاعب الفرنسي من أصل مالي جان تيغانا، والذي كان ضمن التشكيلة الأساسية التي حققت لفرنسا كأس الأمم الأوروبية عام 1984، مع ذلك الجيل الذهبي الذي ضمّ كلاً من ميشيل بلاتيني وألان جيرسي.
كان لا بد أن تفتتح فرنسا البطولة بفوزٍ ليكون مبشراً بجيل جديد قد يعيد منتخب الديوك إلى مكانته مرة أخرى. في العاشر من شهر حزيران/يونيو عام 1996 خاضَ المنتخب الفرنسي مباراته الأولى أمام نظيره الروماني، على ملعب «سانت جيمس بارك»، فازَ المنتخب الفرنسي بهدفٍ وحيد، سجله اللاعب كريستوف دوغاري. تأهلت فرنسا على رأس مجموعتها الثانية التي كانت تضم إسبانيا وبلغاريا ورومانيا، بعد تحقيقها الفوز في مباراتين، وتعادل وحيد أمام المنتخب الإسباني. بدا أن المنتخب الفرنسي يحاول استعادة هيبته الكروية الضائعة منذ سنوات.
وصلت فرنسا إلى الدور نصف النهائي بعد فوزها على المنتخب الهولندي في ركلات الترجيح، بعدما انتهت المباراة بالتعادل السلبي في وقتيها الأصلي والإضافي. لكن أمام التشيك، كان الأمر مختلفاً، انتهت المغامرة الفرنسية عند ذلك الحد، وخرجت فرنسا من الدور نصف النهائي بركلات الترجيح، بعد مباراة انتهت بالتعادل السلبي. حِينَ عادَ المنتخب إلى فرنسا، كان الإحباط ظاهراً على الجميع، حتى صرح المدرب الفرنسي جاكيه واعداً الرئيسي الفرنسي آنذاك، جاك شيراك، بأن المنتخب سيحقق كأس العالم على أرضه ووسط جماهيره.

حين توقف الفرنسيون عن عنصريتهم
كان الجميع متأهّباً لبداية كأس العالم 1998 في فرنسا، المباراة الافتتاحية للمنتخب الفرنسي كانت أمام المنتخب الجنوب أفريقي. دخل رفقاء زيدان إلى المباراة وسط حضور جماهيري بلغ 55 ألف متفرج غصّ بهم إستاد فيلودروم، في مارسليا. انتهت المباراة بفوز المنتخب الفرنسي بثلاثة أهداف مقابل لا شيء، افتتح أول أهداف البطولة اللاعب دوغاري، في الدقيقة 36. كانت المباراة الأولى تبشّر بمنتخب فرنسي قوي، يمهّد الطريق نحو الذهب.
عادَ منتخب الديوك إلى عاصمته باريس، ليلعب ثاني مبارياته على ملعب كأس العالم الجديد «سان دوني» وسط حضور جماهيري وصل إلى 80 ألف متفرج. كانت عاصمة النور تضيء حقاً بالماسات اللامعة. فازَ المنتخب الفرنسي في مباراته الثانية على المنتخب السعودي بأربعة أهدف من دون مقابل، تألق في المباراة هنري وأحرز هدفين. ولم تسر الأمور على أكمل وجه، حيثُ تلقى زيدان في الدقيقة 71 الطرد الأول في البطولة، وسيغيب عن المنتخب مباراتين.
لم تكن أزمة المدرب جاكيه غياب زيدان في المباراة الثالثة من دور المجموعات، حيث ضمن المنتخب الفرنسي التأهل على رأس مجموعته، ما كان يقلق جاكيه حقاً هو غياب زيدان عن الدور المقبل. دخلت فرنسا المباراة الأخيرة من دور المجموعات التي جمعتها مع المنتخب الدنماركي، انتهت المباراة بفوز المنتخب الفرنسي بهدفين مقابل هدف واحد. كان المدرب جاكيه في اختبار صعب أمام منتخب باراغواي، حيثُ دخل المباراة من دون لاعبه الأهم زين الدين زيدان. عادَ زيدان إلى المنتخب الفرنسي مع مباراة ربع النهائي أمام إيطاليا. في تلك المباراة بالتحديد تغيّر زيدان كثيراً. بدا أنه لاعب آخر، يلعب بإيقاع مختلف. ذات يوم قال أحدهم: «لولا معرفتي بمقدار التكنولوجيا وقتها، لقلت إن زيدان كان يستمع إلى موسيقى جاك بريل وهو يتحكم في إيقاع اللعب». ثقة كبيرة قد نشبت في روح زيدان جعلته يبدو ساحراً يبهر المشاهدين. انتهت المباراة بوقتيها الأصلي والإضافي بالتعادل السلبي، لجأ الفريقان إلى ركلات الترجيح، تقدم زيدان للركلة الأولى، لم يأخذ مسافة كبيرة عن الكرة، وضعها بكل ثقة على يمين الحارس الإيطالي باليوكا، سجل زيدان الركلة الأولى وبعدها رفع يديه عالياً مشيراً بعلامة النصر.
في ملعب «سان دوني» ووسط أكثر من 80 ألف متفرج، تقدم المنتخب الكرواتي بالهدف الأول عن طريق اللاعب دافور شوكر في الدقيقة 46. شعرَ المدافع، من أصول افريقية، ليليان تورام أنه أخطأ في مراقبة شوكر وأن الهدف نتيجة خطئه. بعد دقيقة واحدة، أحرز تورام هدف التعادل بعد أن قام بالضغط على الدفاع الكرواتي. كان الأمر سيبدو منطقياً لو اكتفى تورام بذلك الهدف، لكن في الدقيقة 70 من زمن المباراة، أحرز تورام أجمل وأغلى أهدافه حِينَ راوغ المدافع الكرواتي من الجهة اليمنى من خارج منطقة الجزاء وسدد الكرة بقدمه اليسرى، لتسكن شباك الحارس لاديتش. انتهت المباراة بفوز المنتخب الفرنسي بهدفين مقابل هدف واحد. في مقابلة صحافية مع ليليان تورام بعد سنوات من الهدف، قال: «حتى الآن لا أعرف كيف سجلت هذا الهدف، أنا لا يمكن أن أفعلها بقدمي اليمنى التي ألعب بها، ما بالك باليسرى، ربما الشعور بالذنب.. لكنه كان أمراً مذهلاً».
وصلت فرنسا إلى المباراة النهائية أمام البرازيل. كانت شوارع باريس في تلك اللحظة ممتلئة، الجميع متأهب بين انتظار النصر والخوف من الهزيمة. دخل المنتخب البرازيلي المباراة بثقة كبيرة وهو يمتلك الظاهرة رونالدو، وتاريخاً حافلاً. بدأت المباراة لكن يبدو أن راقصي السامبا قد اصطدموا ببرج إيفيل وفقدوا وعيهم. كان زيدان «مايسترو» يحرك فرقته الموسيقية بحركات سلسلة ومن دون مجهود كبير. أهدر المهاجم الفرنسي ستيفان غيفارش العديد من الفرص السهلة، حتى جاءت الدقيقة 27، ومن ركلة ركنية، أرسل إيمانويل بوتي عرضية، أسكنها زيدان برأسه في مرمى البرازيل، مسجلاً الهدف الأول. انتهت المباراة بفوز المنتخب الفرنسي بثلاثة أهداف مقابل لا شيء. كان الأمر بمثابة الحلم للفرنسيين. زيدان الذي سجل هدفين في المباراة النهائية، حملَ على الأعناق وهتفت الجماهير باسمه: زيزو، اسمه الفرنسي. كانت الشوارع الفرنسية ساحات رقص واحتفال. حِينَ جاب لاعبو المنتخب الفرنسي شوارع باريس في حافلة مفتوحة، ليحتفلوا بالكأس مع الجماهير، خرجَ تورام على الجماهير وهو يحمل كأس العالم، في تلك اللحظة لم يسمع أناشيد عنصرية، لكنه سمع الجماهير تهتف له، تهتف للانتصار، كان الجميع يردد النشيد الفرنسي بزهوٍ: «انهضوا يا أبناء الوطن ... فقد دقت ساعة المجد».