«الكرة لا تأتي مطلقاً من الجهة التي تنتظرها» - ألبير كامو
لا تجري الكثير من الأحداث على أرضية الملعب في رواية بيتر هاندكه «خوف حارس المرمى من ضربة جزاء». إمساك حارس المرمى للكرة مهمة من شأنها أن تصير خارج إطار أرضية الملعب. جوزيف بلوخ، الذي كان في ما سبق حارس مرمى، هو في زمن السرد، مجنون يرتقي تدريجياً إلى مرتبة قاتل. النص عبارة عن تحولات سريعة، كرّ وفرّ، مراوغة، تشتت وتشتيت، نزاع عنيف قوامه عالم البطل الداخلي المنغلق على ذاته ضد كل ما يتلقاه من العالم الخارجي كإشارات ولغة وظواهر. عجزُ عقل بلوخ عن ترجمة ما يتمظهر أمامه في الواقع، وعدم قدرته على فهم الخارج بسبب عطل أصابه في التلقي وقفا سداً منيعاً أمام إدراكه للكلمات والأشياء ليبقى وحيداً يستحيل عليه القبض على المعنى. كان انزلاق بلوخ في كوة اللامعقول مصيراً مؤسفاً. ليست رواية هاندكه إذاً عن كرة القدم ولو اتكأ الكاتب قليلاً على مفردات اللعبة أو استعار منها. العنوان مجاز كفيل لتوصيف الحكاية المسرودة: حياة بلوخ القلق إلى حد الارتياب أشبه بضربة جزاء قاتلة، إذا ما دخلت كرتها مرماه تركته بنتيجة فظيعة... فقدانه لعقله وارتكابه لجريمة قتل.
(فرانسوا الدويهي)

تبدو النزعة الوجودية وراء هذا العمل فاقعة، كما تبدو الإحالة التي قام بها الكاتب، في ربطه بين كرة القدم والحياة، وجودية للغاية، تصبو لتكون إشهاراً بالحقيقة نفسها: الحياة كموقف حاسم مليء بالرعشة. اقتصر حضور كرة القدم في رواية هاندكه على التوظيف البلاغي، فيما بقيت كلعبة غائبة عن النص. من خال أنه سيقرأ رواية صغيرة عن كرة القدم تحمل عنواناً مشوّقاً عليه تخدير ملامته للمؤلف والاحتفاء بعمل ينظر إلى الأدب على أنه صنو الحياة، وأن ما يفصله عنها هو، بأقصى الأحوال، خط رفيع لا يضاهي عرضه الخطوط البيض التي ترسم حدود الملعب. نعلَم عن الأدب أنه الخارج عن الحدود والمتسلل نحو المستحيل، ومن ثم فإنه يعلمنا أن الاحتمالات مهما بدت بعيدة إلا أنها قابلة للحدوث، ولا مفرّ من حدوثها، ما يعني أن الاستثناءات تبقى على دكة الاحتياط، عاجزة عن حجز مقعد أساسي لنفسها في الحياة. هكذا، يمكن لشخص كان في ما سبق حارس مرمى، أن يكون وراء جريمة قتل. هذا احتمال غير مُستثنى، أي ليس بمستحيلٍ وحدوثه وارد. كرة القدم تكره الاستثناءات أيضاً وبشدّة. هذه اللعبة تمثّل حلماً للكثير من الحالمين. والحلم عند الحالمين هو اضمحلال الاستثناء، انكشاف للاحتمالات القصوى: هو قوس القزح في الصيف أو طابة كروية مرصّعة بالذهب. والحلم، أحياناً، هو كابوس يترك الحالم جثة مشنوقة بحبل مقصلة معلّقاً في منطقة ضيّقة تشبه منطقة ضربة الجزاء.
في التسعين دقيقة التي تمر، أي منذ انطلاق صافرة الحكم التي تنذر ببداية المباراة وبنهايتها، الصافرة نفسها التي تدلّ في عالم الرمز على لحظة الولادة ولحظة الفناء مع فارق وحيد يكمن، ربما، في الصوت والصدى، فكل ما هو غير متوقّع يمكن له أن يحدث. ثمة علاقة وطيدة تربط الحياة وكرة القدم في السياق وفي الأثر، ولا عبثية في توصيف سارتر لكرة القدم على أنها مجاز تعبّر عن الحياة كلها. يمكن للكرة الطويلة الذي يسددها حارس المرمى نحو شباك فريق الندّ أن تدخل وتحرز له هدفاً. كما يمكن أن يكون المصير المؤسف لجوزيف بلوخ مطابقاً إلى حد بعيد لمصير لاعب طاردته أشباح ذكرياته، مصراً على أن ما يستذكره هو حدث غير معقول، مثل روبيرتو باجيو. وبين الأول والثاني علاقة يحكمها التعادل السلبي، يتسم فيها المتعادل بصفة الضحية، أمّا كل حديث عن علاقة جدلية تربطهما فهو وقت مبدد من توقيت البدل الضائع. ففي حين أن بلوخ حارس مرمى أصيب بالذعر جرّاء ضربة جزاء وتحوّل إلى قاتل، فإن باجيو قد جزع أثناء تنفيذه لركلة جزاء، فأهدرها ومات واقفاً. على هذا النحو، الكتابة عن حياة روبيرتو باجيو تُختزل بجملة واحدة: «موت مهاجم على إثر ضربة جزاء».
عندما نتكلم عن كرة القدم فإننا نتكلم عن لعبة لا تكتمل بدون فرجة. ليس لأن اللاعب مطالَب بالاستعراض بل لأن الأجساد عندما تتحرك تجذب الرؤية. الكرة في الملعب هي نقطة ارتكاز، لكن وجودها مجرد إلهاء لأن اللعب لا يرتكز عليها. غرضُ جريان الأجساد وراء الكرة ليس للهاث جراء الإنهاك. الأجساد ليست بمهمة سيزيفية محصورة بالركض لغاية الركض، إنما هي في صدد خرق الحالة الموسومة على هيئة الصفر؛ لكسر الجمود المستتب في خلقها للمعنى أو في محاولة منها لخلقه. لذلك، إن اللاعب هو رحّال مستمر يشبه الشاعر التائه في بحثه المحموم عن الاستعارة. تعلم الأجساد أن اللعبة مؤلفة من طبقتين منصهرتين تشكلان ماهيتها: تلك التي تخص السيطرة على المساحات، وأخرى التي تدوزن إيقاع الحركة، فيما يشكّل الركض الانقلاب الثوري على هذه السلطة.
في السرعة التي تخلق الإثارة الخاطفة، أو في البطء الذي يسترعي انتباه الذكاء، نحن أمام خارطة عمرانُها لا ينتهي. على أن من يستحوذ على المساحة ومن يضبط الحركة يُنجز البناء ويشيّده، تاركاً لخصمه الضواحي المهمّشة وبعض الدموع في مشهد لا تنقله كاميرات البث المباشر إلا في ومضات سريعة لأسباب تجارية على الأرجح. إن الفرجة على كرة القدم، أي مشاهدتها، تسمح بالتفكير بمسائل عدة لأنها بطبيعتها، مشهدية قائمة على دلالاتٍ عدة، و... تمريرة: كرة القدم هي خلخلة للمشاعر، لأنها كسلسلة أحداث مبعثرة ومتناقضة، منسجمة ومتناغمة، تشكل بتراصها تاريخاً واحداً يحاكي الحياة بكلّ احتمالاتها المفتوحة وبصيغة مباشرة. استحواذ. عندما نقول محاكاة فإننا نتطرق بالضرورة إلى الدراما، كفن مركب ينطوي على مشاعر الخوف، والقلق، والإثارة والشجن.
ضربة مرمى: كرة القدم درامية بامتياز، حتى إنها تلامس بطياتها سمات التراجيديا، ليس بسبب فوز فريق أو خسارة آخر، إنما لأنها ترسم قصصاً وتولّد حبكات، ولأنها مسرح مفتوح على اللامعقول وعلى ما هو غير متوقع، ولأن شخوصها، بمصائرهم وحكاياتهم الكابوسية، يشبهون الشعراء الملعونين كثيراً.
على هذا النحو، الكتابة عن حياة روبيرتو باجيو تُختزل بجملة واحدة: «موت مهاجم على إثر ضربة جزاء»


حين انتهى الوقت الأصلي في نهائي مونديال 1994 وباتت لضربات الجزاء كلمة الفصل في حسم اللعبة، كان الرهان على فوز إيطاليا عالياً جداً. الجميع يهاب براعة حارس المرمى الإيطالي ولطالما كان موقعه بمثابة نجم. الأهم، كان وجود روبيرتو باجيو الملقّب بصاحب «ذيل الحصان المقدس» الذي حاز قبل أقل من عام جائزة أفضل لاعب في العالم، والمختص بتسجيل الكرات من كل ضربات الجزاء وضرباتِ الثابتة ضمن تشكيلة الفريق. البرازيل متفوقة على إيطاليا بركلتي جزاء، ومع ذلك كانت كل الاحتمالات تشير إلى فوز إيطاليا. كل شيء بدا جميلاً في ذلك النهار: البزّة، لون البزّة، ضربات الجزاء كفرصة سانحة لإيطاليا التي تعلم كيفية حصد الفوز منها، قلق اللاعبين البرازيليين والأمل المعلّق على صاحب القميص الأزرق الذي يحمل الرقم عشرة. عندما ثبّت باجيو الكرة وعاد خطوتين إلى الوراء، حسب الجميع، ببداهة، أنّ كرته دخلت وقلّصت الفارق. ركل باجيو الكرة لكن كرته ركلت أحلامه. حلّقت كرة باجيو عالياً دون أن تصيب المرمى. صاحت الحناجر وقبضت الأيادي على الرؤوس. واقفاً، أحنى روبيرتو باجيو رأسه: وقع في اللامعقول واستحال عليه القبض على المعنى. في الخارج، راح المشجعون يكتبون على جدران الكنائس «الكل يدخل الجنّة ما عدا روبيرتو باجيو». ركلة روبيرتو باجيو كرّست سقوط روبيرتو باجيو من علياء المجد إلى قعر الجحيم. كرته الضائعة، التي طارت نحو السماء كأنها رجاؤه للخلاص من سخام الموقف، حوّلته بين ليلة وضحاها من بطل العالم في اللعبة إلى أسوأ شرير في تاريخ إيطاليا المعاصر. في تلك اللحظة، استقبل مصيره بانحناءة رأس والكثير من الدموع. مثله، آلت مسيرة باجيو إلى الانحناء هبوطاً بتدهور تراجيدي يشبه السقوط الحر. بالنسبة إلى المشجعين الطليان، فوز البرازيل كان صحوة التراجيديا: استعادة لملحمة بومبييه. حدوثُ ذاك اللامعقول حشر المشجعين في زاوية الخيبة. «وحدهم الذين يملكون شجاعة ضربة الجزاء يخطئون الهدف». قارئ هذه الجملة قد يظن أنها نابعة من قصص «الجدار» لجان بول سارتر بما تليق بمزاج وجوديّ يصف الموقف وصفاً مسعوراً، لكنها ما صرّحه روبيرتو باجيو بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على جرحٍ لم يندمل. إرادة الكرة حدّدت مصير مُسدّدها طارحةً المتفرجين أرضاً بجرح مفتوح لا تجف دماؤه.
العودة إلى مشهد إضاعة روبيرتو باجيو تجيز فرصة العودة إلى ثنايا دواخلنا والكشف عن هشاشة الذات. الأنا المتفرجة التي ترى أحلامها المبددة في كرة باجيو الضائعة. عندما نفكّر أننا، كأي أحد، معرّضون لضربة جزّاء، يمكننا عندها مشاهدة احتمال ما يمكن أن يكون عليه مصيرنا إزاء تضييعنا الفرصة. قد يخطر في بال أحدنا أن يسأل، إذا كانت كرة القدم درامية، ونعلم أنها درامية الى هذه الدرجة، فلماذا إذاً نستمر بمشاهدتها؟ يطرح سايمن كريتشلي في كتابه «فيم نفكّر حين نفكر عن كرة القدم؟» سؤالاً شبيهاً حيثما يسأل ما معناه: «إن كنا نعلم أن كرة القدم ستنتهي بربح أو خسارة، وأن على اللاعبين الغوص في اللعبة بغضّ النظر عن نتيجتها، فإذاً اللعبة قد لُعبت قبل أن تبدأ، ولكن ماذا عن المشاهدين؟» للإجابة على سؤاله يستعير كرايتشلي من غادامير تحليله حول المسرح الإغريقي القديم وتصوّره لشخصية المُشاهد. بالنسبة إلى غادامير، إن طبيعة المُشاهد تفرض عليه أن يكون حاضراً. هذا الحضور يعني الوعي بالحدث، والتماهي معه زمنياً، لذلك وصف المُشاهد بالـ Theoros أي «وجوده هنالك» مستعيراً العبارة من Theatron أي المسرح في الإغريقية. عند غادامير، ومعه كريتشلي، دور المُشاهد مشروط بأن يكون على «مسافة مطلقة»، ما يعني أن لا يكون مشاركاً بممارسة اللعبة ولا التدخل فيها، بل الاكتفاء ببُعد المسافة المفروضة عليه وتبني التنظير عوضاً عن الممارسة. يتم هذا التنظير في إعارة الانتباه بالشكل الكامل للمشهدية التي تجري أمام المشاهد والاستمتاع بالدور الجمالي الذي تفرضه المسافة عليه بكل ما تبيحه له من تطهير وتفريغ.
ولكن، أليس هذا سبباً كافياً لكي نستمر بمشاهدة كرة القدم؟ ألا يتضح، بعد هذا العرض برمّته، أن هذه الدراما المرئية هي في الوقت عينه مَعيشة، وأنها في تداخلها تشكّل كلّاً واحداً لأن ما نشعره تجاه اللعبة موجود أصلاً، في أنفسنا؟ كلما عمّقنا الحفر في الداخل، كانت اللعبة بمثابة ملامسة رقيقة، بدون قفازات، للجانب العبثي الذي أفقد جوزيف بلوخ صوابه.
أن «أكون هنالك» هو السياق المُتخيل لما هو واقعي ومَعيش مع ما هو ممكن ومحتمل في آن. عندما «تكون هنالك» بإمكانك أن ترثو فرصك الضائعة بينما تشرب البيبسي مثلاً، أو أن تقلّم أظفارك بأسنانك لأنك أصبحت موضوعاً في موقف مليء بالرعشة. كرة القدم هي وجه الحياة أمامنا، والمتفرج مرآة. هكذا، يخطر لي أحياناً، وأنا أشاهد كرة القدم أنني حارس مرمى بينما جوزيف بلوخ يتحضّر لركلة جزاء. لكنني كلما شاهدت انحناءة روبيرتو باجيو، أشعر كأنني أقرأ قصيدة.