في الوقت الذي تستضيف فيه قطر، بوصفها أوّل دولة عربية وإسلامية، فاعلية كأس العالم، تواجه اختباراً صعباً يُمثّل أحد تجلّيات «الحرب الثقافية» التي تسعى الدولة فيها إلى حماية تراثها الديني والاجتماعي، بينما تتعرّض لحملة ضغط قوية مِن مجتمع «LGBTQ» (مجتمع الميم - اصطلاح يشير إلى مثليي الجنس ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسياً) لتسهيل حضور وقبول شرائح كبيرة منهم قد يحضرون مباريات كأس العالم.تعتمد الدوحة في قوانينها على الشريعة الإسلامية، ما يعني أنها لا تعترف بممارسات مجتمع الميم في مُجملها، وينص قانون العقوبات القطري الحالي (القانون 11/2004) على عقوبة السجن من سنة إلى ثلاث سنوات لممارسة المثلية الجنسية بين الرجال. كما أن العمّال المثليين ممنوعون تماماً من دخول قطر بنيّة العمل هناك.
لذا، خلال الأشهر الماضية، تعرّضت قطر لانتقادات شديدة من منظمات المجتمع المدني الغربية والجهات المتضامنة مع مجتمع الميم بسبب قوانين الدوحة الرافضة لهم. وكان من أبرز الذين هاجموا الدوحة اللاعب الألماني توني كروس، والمدرب الهولندي لويس فان غال، والمدرب الإنكليزي غاريث ساوثغيت. وكان اللاعب الأسترالي جوش كافالو، الذي يعتبر مثلياً، قد أعلن في وقت سابق خوفه على سلامته خلال مشاركته في البطولة.
دفع هذا الأمير تميم بن حمد آل ثاني، في 20 أيار 2022، إلى إعلان أن بلاده سترحّب بالزوار من مختلف دول العالم، ولن تمنع أحداً من الحضور لمشاهدة كأس العالم، لكنه دعا جميع الزوار إلى احترام ثقافة وتقاليد الشعب القطري. وأعلن رئيس «الفيفا» جيوفاني إنفانتينو، أن الجميع مرحّبٌ بهم في قطر، بما في ذلك مجتمع الميم، مشدداً على أنه سيلغي عقود كأس العالم مع أي فندق أو مزود خدمة يميّز ضد المثليين جنسياً. لكن في سياق آخر، صرّح رئيس اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب، اللواء القطري عبد الفتاح عبد الله الأنصاري، أن: «أعلام مجتمع الميم ستُصادر من الجماهير في قطر لأسباب أمنية»، وأضاف: «إذا لم أفعل هذا، يمكن مهاجمة الشخص، لا يمكنني ضمان تصرفات الجميع».
تواجه قطر الآن تغييرات ثقافية لم تؤخذ في الاعتبار، لذلك لا ينبغي أن نتفاجأ اليوم بتلك المعركة مع مجتمع الميم، والانقسامات بين الأكثر تديناً والأقل تديناً، والصراع الشرس حول مَن يجب أن يجلس في مُدرجات كُرة القدم، فالحرب الثقافية ليست بالشيء الجديد، لكنه طارئ على منطقتنا العربية والإسلامية.
الفضيلة العظيمة لحجة الحرب الثقافية هي أيضاً عيبها الكبير؛ حيث يُمكننا جميعاً استخدام النقاش لتقديم رؤيتنا المثالية أو انتقاداتنا الشديدة لقطر، وذلك مِن أجل وجهات نظرنا حول الطبيعة البشرية، أو أحلامنا حول السياسة أو الترفيه، وكيف يجب تنظيم المجتمعات والمدارس والحياة الأسرية. وإذا نظر المرء في المقام الأول إلى الآراء (وأنا أستخدم «المتديّن» أو «المُحافظ» بشكل وصفي، وليس كوصم)، فهناك بالطبع صراع ثقافي عميق الآن حول فاعلية ترفيهية بين الشرق والغرب. حيث يتم خوض حرب بين المتديّن أو المحافظ والعلمانيين والليبراليين واليساريين. وربما يفوق عدد المحافظين المتديّنين في الشرق عدد الليبراليين والعلمانيين واليساريين، على الرغم من نمو الجماعة الأخيرة. لكن ليس هناك شك في أن هاتين المجموعتين موجودتان، ولديهما مشاعر قوية جداً، وعلى العموم لا يمكنهما تحمّل بعضهما البعض، ويعبّرون بشكل مستمر عن اختلافاتهم بالتهجّم المتبادل.
يتم توزيع الأفكار والممارسات الاستبدادية على نطاق واسع عبر الطيف السياسي لليمين واليسار. وأبسط تمرين هو سرد التعبيرات الصارخة والمذهلة للنقيضين، وإظهار مدى تشابههما مع بعضهما البعض ومدى حرصهما على إضفاء الطابع الدرامي على تطرّفهم (التطرّف بالمعنى الوصفي أيضاً وليس الازدرائي) الذي يُقسّمهم ويدعم مواقفهم السياسية بالأساس. وهذا النمط التاريخي متكرّر لدرجة أنه يجب أن يظهر دائماً بشكل بارز في أي تقييم شامل لفهم سياسات عدم التسامح والقمع. ومع ذلك، فهو عنصر واحد فقط في بانوراما «الحرب الثقافية» الأكثر تعقيداً.
اليوم، قد وصلنا إلى نقطة في التاريخ يكون فيها التعايش على مستوى الأفكار في خطر كبير


اليوم، قد وصلنا إلى نقطة في التاريخ يكون فيها التعايش على مستوى الأفكار في خطر كبير، والطبيعة الدقيقة لهذا التهديد معقدة، لأنه ينشأ من ضغطين ساحقين على الأقل، أحدهما ثوري والآخر رجعي، يخوضان حرباً مع بعضهما البعض حول أي اتجاه يجب أن تُجر مجتمعاتنا إليه.
يصوّر التقدّميون اليساريون أنفسَهم على أنهم الأبطال الوحيدون والصالحون للتقدّم الاجتماعي والأخلاقي الذي من دونه تصبح حياتنا فارغة بلا معنى. هؤلاء لا يقدّمون فقط قضيتهم من خلال أهداف ثورية ترفض علناً الاضطهاد، ولكنّهم يفعلون ذلك أيضاً بوسائل سلطوية متزايدة تسعى إلى تأسيس أيديولوجية أصولية عقائدية شاملة في ما يتعلّق بكيفية تنظيم المجتمع.
على الجانب الآخر، تتمترس التيارات الدينية اليمينية الرافضة للديموقراطية السياسية، والقيود على سلطات الحكومة، وتطوير حقوق الإنسان العالمية، والمساواة القانونية لجميع المواطنين، وحرية التعبير، واحترام قيمة التنوع والنقاش، واحترام الأدلة والعقل، والفصل بين الدين والدولة، وحرية العقيدة.
يرى كل جانب في هذا الصراع الآخر على أنه تهديد وجودي، وبالتالي يغذّي كل طرف أعظم تجاوزات الطرف الآخر، حيث يقود الطرفان بعضهما البعض إلى الجنون والمزيد من التطرف، وهذه الحرب الثقافية شديدة لدرجة أنها أصبحت تحدد الحياة السياسية - والاجتماعية بشكل متزايد - خلال بداية القرن الحادي والعشرين.
وعلى الرغم من أن مشكلة اليمين خطيرة وتستحق الكثير من التحليل الدقيق في حد ذاتها، لكننا أصبحنا خبراء فيها، ما هو جديد الآن، مشكلة اليسار والتي تمثّل خروجاً عن منهجه التاريخي وقوته العلمية. حيث فقد اليسار التقدّمي انسجامه مع الحداثة وبدا متناغماً أكثر مع ما بعد الحداثة، التي ترفض الحقيقة الموضوعية باعتبارها خيالاً يحلم به مفكرو التنوير الساذجون والمتعصبون الذين استخفوا بالعواقب الجانبية للتقدّم. وأصبحت ما بعد الحداثة (أو أدت إلى ظهور واحدة) مِن أقل الأيديولوجيات تسامحاً واستبداداً والتي كان على العالم التعامل معها منذ التدهور الواسع للشيوعية وانهيار تفوق الإنسان الأبيض والاستعمار. حيث تم تطوير ما بعد الحداثة في زوايا غامضة نسبياً من الأوساط الأكاديمية كرد فعل فكري وثقافي على كل هذه التغييرات، ومنذ الستينيات انتشرت خارج الأكاديمية، إلى الفضاء السياسي عبر البيروقراطيات الحكومية.
وهؤلاء العلماء والنشطاء والساسة لا يتحدّثون لغة متخصصة فقط - يفترضون بشكل غير صحيح أن الناس يفهمونهم - بل يمثّلون أيضاً ثقافة مختلفة تماماً. هم مِن الناحية الفكرية بعيدون عن الجمهور، ممّا يجعل فهمهم والتواصل معهم أمراً صعباً للغاية. إنهم مهووسون بالقوة واللغة والمعرفة والعلاقات بينهم. حيث يفسّرون العالم من خلال عدسة تكتشف ديناميكيات القوة في كل تفاعل وكلام وأداة ثقافية - حتى عندما لا تكون واضحة أو حقيقية. هذه نظرة عالمية تركز على المظالم الاجتماعية والثقافية وتهدف إلى تحويل كل شيء إلى صراع سياسي محصلته صفر يدور حول مُحددات الهوية مثل العرق والجنس، وأشياء أخرى عديدة.
يتطلب التفاعل مع هذا اليسار تعلّم ليس فقط لغتهم - التي تمثل تحدياً بحد ذاتها - ولكن أيضاً عاداتهم وحتى أساطيرهم عن المشكلات «النظامية» و«الهيكلية» المتأصلة في مجتمعنا وأنظمتنا ومؤسساتنا. وكما يعلم المسافرون المتمرسون، هناك الكثير للتواصل مع الثقافات المختلفة تماماً غير تعلّم اللغة، حيث يجب على المرء أيضاً أن يتعلّم التعابير والتأثيرات والمراجع الثقافية وآداب السلوك، التي تحدد كيفية التواصل بشكل مناسب. وفي كثير من الأحيان، نحتاج إلى شخص ليس فقط مترجماً ولكن أيضاً مُرشداً بالمعنى الواسع، شخصاً ماهراً في التعامل مع العادات، والتواصل بشكل فعّال.
لذا يبدو الهجوم على مونديال قطر كمحاولة جديدة لتفكيك ما قد نوافق على تسميته «الأديان القديمة» للفكر البشري (والتي تشمل العقائد الدينية التقليدية مثل المسيحية والإسلام والأيديولوجيات العلمانية مثل الماركسية، فضلاً عن النظم الحديثة المتماسكة مثل العلم والليبرالية الفلسفية) واستبدالهم بدين جديد، يسمى «التقدّمية». تلك الفكرة التي نمت إلى نوع من القناعة الراسخة المرتبطة بالالتزام الديني. إيمان ما بعد حداثي تماماً، أي إنه بدلاً من تفسير العالم من حيث القوى الروحية الخفية مثل الخطيئة والسحر، فإنه يركز بدلاً من ذلك على القوى المادية الخفية، مثل التعصب، ثقافة الإلغاء، التذمر...إلخ.
في حين إن هذه القناعة التقدّمية الجديدة قد تسبّبت في مشكلات كبيرة، فمن المفيد أيضاً أن نطّلع على النظرية التقدّمية وأن تصبح أكثر ثقة ووضوحاً بشأن معتقداتها وأهدافها. فهذا يُسهّل الوصول إلى تلك الأفكار والتحاور معها. ومن ناحية أخرى، فإن هذا التطوّر ينذر بالخطر لأنه يجعل النظرية أكثر سهولة في فهمها والتصرف بناءً عليها من قبل المؤمنين الذين يريدون إعادة تشكيل المجتمع.
الآن، نجد أنفسنا في مواجهة تفكيك مستمر لفئات مثل المعرفة والمعتقد، والعقل والعاطفة، والرجال والنساء، مع ضغوط متزايدة لفرض رقابة على لغتنا. ونرى النسبية الراديكالية في شكل معايير مزدوجة، مثل التأكيدات خلال الهجمة على مونديال قطر، والتي تقدّم فئة بشرية (العرب هُنا) بوصفهم بحاجة إلى دروس تعليمية لكيفية اللحاق بركب الحضارة الذي يقوده الغرب أيضاً، سواء كان التقدّمي القادم مِن الغرب لون قناعه أسود، أو أصفر، أو أحمر، ولكن لا شك أن بشرته الفكرية بيضاء استعمارية، علماً أن روسيا لم تتعرّض لحملة الترهيب التي تواجهها قطر عندما استضافت كأس العالم 2018، وقوانين موسكو لا تنص على حماية مجتمع الميم. وهذا ما يزيد صعوبة الاعتراف بإنسانيتنا المشتركة في مواجهة سياسات الهوية الانقسامية والمقيدة.